TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الطائفيّة التي نتجاهلها!

الطائفيّة التي نتجاهلها!

نشر في: 20 مارس, 2025: 12:01 ص

حازم صاغية

في الآونة الأخيرة، وبالتفاعل مع مأساة الساحل السوريّ، سُمعت أصوات كثيرة يمتزج فيها الندم بالاعتذار: لم نقدّر أنّ الطائفيّة على تلك القوّة التي بدت عليها.
فمن أين يأتي هذا الإغفال المتمرّد على شواهد لا تُحصى؟
أغلب الظنّ أنّ ثمّة ميلاً إنسانيّاً رديئاً يغازله الإغفال، مفاده صمت المرء عن نواقص عالمه وعن قصوره. فمُربكٌ ومنغّص إقرار واحدنا بأنّ عطلاً عميقاً يقيم في بيته وأهله وجماعته. وفي المقابل، تستقرّ النفس على استواء هانئ حين نرسم صورة تطفح بالورد عن "أهلنا" الأحبّاء المظلومين.
لكنّ الطائفيّة هي، بمعنى ما، نحن. فهي ليست الدين، ولا رذيلة متأصّلة فينا منذ أجدادنا الأوّلين. إنّها علاقة سياسيّة، وبالتالي ثقافيّة، حديثة في اسمها وفي اشتغالها، من دون أن ينقطع استلهامها لتركيب مجتمعاتنا العصبيّ القديم. ذاك أنّ الأخير أحياه، بدل أن يتجاوزَه، نوع استقبالنا الحداثةَ، ونوع بنائنا الدولَ والسياسة والاقتصاد...
وتجاوباً مع ميل الإغفال، تحضر الآيديولوجيّات النضاليّة عن العداوة لتعزّز تلك الصورة. فالعدوّ، الاستعماريّ والصهيونيّ والشيطانيّ، ينبغي رسمه كَسَلْب أقصى، كي يطمئنّ يقيننا إلى أنّنا إيجاب أقصى. وفي هذا الإيجاب، الذي يتجسّد فينا، يستحيل أن توجد ظاهرات "معيبة" كالطائفيّة والعشائريّة وسواهما.
وفي مُضيّنا باللعبة إلى أواخرها، يتولّى العدوّ إيّاه "بذر" ما قد يُضبط فينا من سيّئات يصعب إخفاؤها. فهو، لأنّه مطلق العداوة ومطلق السوء، يبذر في تربتنا الفتنة والشقاق، والطائفيّة في عدادهما. هكذا تغدو تلك "الآفة" من نتائج انخراطنا في السوق العالميّة، و"تغلغل" الرأسماليّة فينا، وإصلاحات ابراهيم باشا المتأثّرة بالغرب. وهذا علماً بأنّ صحّة تأويل كهذا تجعل تجميد التاريخ ووقف الحياة شرطاً لوقف التآمر علينا.
ولأنّ تلك الطائفيّة صُوّرت خارجيّةً وطارئة، تسبّبَ بها "العدوّ"، يتكفّل بالشفاء منها وعي آخر قوميّ أو علمانيّ أو ديمقراطيّ، لا نبلغه إلاّ في سياق الصراع مع "العدوّ"، باذرِ الشقاق، ومعه التخلّف والتأخّر. هكذا نهوّن الأمر على أنفسنا بفولكلور متقادم: فالمسيحيّ فارس الخوري سبق أن صلّى في الجامع الأمويّ، وقبله أعلن الدرزيّ سلطان الأطرش الثورة على الفرنسيّين، بينما كان العلويّ صالح العلي يُكمل في الساحل ما بدأه ابراهيم هنانو في حلب.
لكنْ إذا كان الجهد المطلوب إيقاظ تلك اللحظات المضيئة، والقفز قرناً كاملاً إلى الوراء لإعادة إجلاس السادة المذكورين في حضن "الشعب الواحد"، فإنّ "العدوّ" إيّاه، في مطاردته لنا بالشرور، لا يدعنا نفعل ذلك، إذ يواجهنا بآلاته الاستشراقيّة التي تُخبرنا أنّنا على شيء من الطائفيّة!. واستكمالاً لصورة الشرّ المطلق، يعثر مثقّفونا على ما يلهب مخيّلتهم في كلّ صفحة يكتبها غربيّ نقداً للغرب والحداثة والعقل والتنوير، ممّا تفصلنا عشرات السنين عن بلوغ تناقضاتها.
وإذ يُرسَم الرئيس الأميركي دونالد ترمب معادلاً حصريّاً لما آلت إليه تلك المعاني، لا ينجو من اللعنة إلاّ طلاّب جامعات كولومبيا المُصرّون على "نزع الاستعمار".
وإلى أفعال "العدوّ"، وهو ليس بريئاً بأيّة حال، تُضاف أفعال "النظام"، وهو أيضاً غير بريء. لكنّ "النظام"، كـ"العدوّ"، خارجيّ، منشقّ عن الأصالة والطيبة اللتين فينا، وهابط علينا من السماء. وهذا علماً بأنّ أسوأ ما يفعله "النظام" تجديده العلاقات العصبيّة "الأصيلة" عبر جهاز الدولة وتقديماته وفُرصه.
ووراء تأويل الكون بـ"النظام" (وهو غالباً ما يُرسَم عوناً للعدوّ ولو تظاهر بالعكس) تقيم ثنائيّة حصريّة وساذجة أخرى: فهناك هذا النظام، مؤسّس العيوب، وهناك الشعب أو الجماهير ممّن هم ضحاياها. ويستند التصوّر هذا إلى المبالغة في أنّنا شعب واحد وأمّة واحدة، وتحويل مهامّ صعبة مطروحة للمستقبل، وغير مضمونة النتائج، إلى وصف مُريح لواقع ناجز. هكذا لا يعود مطلوباً سوى الانتقال من مسح الدم عن السكاكين إلى اختيار "تغيير ديمقراطيّ" أو "وطنيّ ديمقراطيّ" أو "ديمقراطيّ علمانيّ"...
في هذا كلّه تحتلّ مساحةً تكاد لا تُذكر موضوعاتٌ ذاتيّة الصنع، من صنف "دين الدولة" و"دين رئيس الدولة" و"مصادر التشريع". وبمساحة ضئيلة مماثلة تحظى مكافحة الروابط العابرة للأوطان، والأوطانُ ودولها هي وحدها ما يحمي الجماعات الأضعف ويُخضع الجموح الآيديولوجيّ للقانون بوصفه حصنها الضعفاء وملاذهم. وليست محاربة "العدوّ" حتّى الرمق الأخير سوى مسمار آخر ندقّه في نعشنا. ذاك أنّ تسييد القضيّة الواحدة يحمل على تصغير قضايا الحقوق والحرّيّات، إن لم يكن تصفيرها. والضعفاء، تعريفاً، ينشدّون إلى تعدّديّة القضايا، ولا يطمئنهم إلاّ عالم قليل السلاح وعديم الكلام المسلّح. أوليس لافتاً، من منظور مشرقيّ، ذاك الانتقال بين ليلة وليلة من الاصطهاج بـ"طوفان الأقصى" إلى "التذابح بين الأخوة"؟
وهذه جميعاً، من دين الدولة وتجديد العصبيّات وغلبتها إلى الوعي العابر للحدود إلى القضيّة الواحدة...، تناقض تماماً ما اصطُلح على تسميته بالغرب وتناوئ اقتراحاته، متوهّمةً بهذا إكمال المعركة ضدّه. لكنّنا، أقلّه كي لا نُفاجأ ثانية بالطائفيّة، مدعوّون إلى التنقيب في أحوالنا وأفكارنا، وفي إسهامنا بتعزيز تلك الطائفيّة من حيث أردنا محاصرتها.
· عن الشرق الاوسط

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram