د. طلال ناظم الزهيري
يعود تاريخ العمل النقابي في العراق إلى بدايات القرن العشرين، حيث ارتبط ظهوره بالنشاط العمالي والحركات السياسية والاجتماعية التي سعت لتحسين أوضاع العمال وتنظيم صفوفهم لمواجهة الاستغلال وتحقيق مطالبهم. بدأ النشاط النقابي في العشرينيات من القرن الماضي بشكل غير رسمي، خاصة بعد دخول الشركات الأجنبية واستغلالها للعمال في قطاعي النفط والسكك الحديدية. وعلى الرغم من عدم وجود تشريعات نقابية رسمية في البداية، فإن حقبة الثلاثينيات شهدت تشكيل أولى التجمعات العمالية التي طالبت بتحسين ظروف العمل والأجور، لكن الحكومة بدأت في تقييد هذه التجمعات خشية تأثيرها السياسي. ومع ذلك، شهدت هذه الفترة إضرابات مهمة، مثل إضراب عمال السكك الحديدية عام 1945.
في عام 1958، وبعد ثورة 14 تموز، شهد العراق انفتاحًا نسبيًا على العمل النقابي، وتم تشكيل العديد من النقابات المهنية والعمالية بشكل رسمي. إلا أن الحكومة العراقية اتخذت مواقف متباينة تجاه النقابات، حيث دعمتها في البداية لكنها سعت لاحقًا للسيطرة عليها. وفي السبعينيات، وخلال حكم حزب البعث، أصبحت النقابات تحت سيطرة الدولة بشكل كامل، وتم توظيفها لدعم سياسات الحزب الحاكم، مما أفقدها استقلاليتها. وعلى الرغم من ذلك، بقيت بعض النقابات، مثل نقابة المعلمين والأطباء، تحاول لعب دور مستقل نسبيًا، لكنها كانت مقيدة بالقوانين والإجراءات الحكومية.
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، أصدر بول بريمر، الحاكم المدني للعراق، قرارًا يقضي بحل جميع النقابات والجمعيات المهنية ومنعها من ممارسة أي نشاط رسمي. وقد جاء هذا القرار ضمن سلسلة إجراءات هدفت إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة. كان أبرز ما تضمنه القرار تعليق جميع الأنشطة النقابية والمهنية التي كانت قائمة خلال حكم البعث، وإغلاق مقرات العديد من النقابات ومنعها من إجراء انتخابات أو تنظيم اجتماعات رسمية، وإعادة النظر في القوانين المتعلقة بالعمل النقابي وفق التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية. أدى هذا القرار إلى شلل شبه كامل للحركة النقابية، حيث لم تتمكن النقابات من تمثيل جمهورها أو الدفاع عن حقوقهم بشكل فعال. كما أدى إلى ضعف البنية التنظيمية للنقابات، حيث واجهت صعوبة في استعادة دورها حتى بعد انتهاء الإدارة المؤقتة.
بعد انتهاء الإدارة المؤقتة، أعيد إحياء بعض النقابات، لكن ظل تأثير قرار بريمر حاضرًا بسبب غياب إطار قانوني واضح ينظم العمل النقابي، وبقاء بعض القوانين المقيدة مثل قانون 1987 الذي يمنع النقابات في القطاع العام. خلال الفترة بين 2004-2005، بدأت بعض النقابات بالعودة إلى النشاط بشكل غير رسمي، حيث أعادت تنظيم صفوفها وعقدت اجتماعات، رغم استمرار القيود القانونية. وفي عام 2005، شهدت عودة جزئية للنشاط النقابي بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، لكن النقابات ظلت تعاني من غياب الاعتراف الرسمي. حتى صدر قانون المنظمات النقابية والعمالية رقم 87 لسنة 2010، الذي سمح بإعادة تشكيل النقابات في القطاع الخاص، لكنه لم يشمل العاملين في القطاع العام، الذين ظلوا مقيدين بقوانين قديمة مثل قانون 1987. وشهدت الأعوام 2015-2017 حراكًا نقابيًا أقوى، خاصة مع احتجاجات المعلمين والمهنيين، مما أجبر الحكومة على التعاطي مع النقابات رغم استمرار التدخلات السياسية. وفي عام 2020، برزت النقابات مجددًا كلاعب مؤثر في الحراك الاجتماعي، حيث ساهمت في دعم الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية.
لا تزال العديد من النقابات العراقية تواجه صراعات داخلية وتدخلات من الأحزاب السياسية نتيجة ضعف التشريعات الضامنة لاستقلاليتها. حيث أصبحت بعض النقابات أدوات بيد القوى السياسية، التي تتدخل في انتخاباتها وتعيين قياداتها. كما تحظى النقابات المدعومة سياسيًا أو ماليًا بقدرة أكبر على التأثير والضغط، بينما تعاني النقابات المستقلة من التهميش وضعف الموارد. وقد تواجه النقابات اليوم اتهامات بتحولها إلى أذرع سياسية أكثر من كونها ممثلة حقيقية للعمال أو المهنيين. فالمتابع للعمل النقابي يلحظ وجود تفاوت في التأثير، حيث إن النقابات التي تمتلك قيادات قوية وموارد مالية ودعمًا سياسيًا تكون أكثر قدرة على فرض مطالبها. على سبيل المثال، استطاعت بعض النقابات، مثل نقابة المعلمين أو نقابة الأطباء، أن تكون مؤثرة نسبيًا بسبب حجم أعضائها وأهميتهم المجتمعية، بالمقابل، تعاني النقابات العمالية، خصوصًا في القطاعات غير المنظمة، ضعفًا كبيرًا بسبب نقص الدعم المالي والقانوني. إن المؤتمرات الانتخابية لبعض النقابات غالبًا ما تكون أشبه بساحة صراع بين القوى السياسية، ولم يعد من أولوياتها الدفاع عن حقوق العمال والمهنيين. لذلك، فإن قوة وتأثير أي نقابة يعتمد على مدى ارتباطها بالجهات الداعمة لها، وليس فقط على عدد أعضائها أو قوة حججها.
ولأهمية الدور المنوط بالنقابات العراقية، من الضروري توجيه العمل النقابي نحو الاستقلالية وتحقيق أهدافه من خلال إصلاح الإطار القانوني للنقابات عبر إلغاء القوانين المقيدة، وإصدار قانون جديد يكفل استقلالية النقابات، ويمنع التدخل السياسي، مع وضع آليات شفافة لانتخاب القيادات النقابية. كما يجب تعزيز الاستقلال المالي للنقابات عبر إيجاد مصادر تمويل ذاتية مثل اشتراكات الأعضاء والمشاريع الاستثمارية، مع فرض رقابة صارمة على التمويل لمنع الاختراق السياسي، وتوفير دعم حكومي مشروط يضمن عدم التأثير على قرارات النقابات. ولضمان استمرارية العمل النقابي المستقل، ينبغي زيادة الوعي النقابي بين العمال والمهنيين من خلال حملات توعية حول أهمية النقابات المستقلة، وتعزيز الثقافة الديمقراطية داخل النقابات عبر برامج تدريبية وورش عمل. كذلك، فإن تفعيل الدور الرقابي والمحاسبي من خلال إنشاء هيئات مستقلة لمراقبة أداء النقابات، وفرض إجراءات شفافة في اتخاذ القرارات مثل نشر التقارير المالية الدورية، وتشجيع الإعلام المستقل على متابعة الشأن النقابي وكشف أي تجاوزات، يعد من الركائز الأساسية في بناء نقابات قوية ومستقلة. كما أن بناء تحالفات وطنية ودولية عبر التعاون مع نقابات دولية ومنظمات حقوق العمال للاستفادة من التجارب العالمية، وإقامة تحالفات نقابية داخل العراق لتعزيز التضامن النقابي ومواجهة التدخلات السياسية، يمكن أن يسهم في تقوية النقابات العراقية. وأخيرًا، يجب فرض عقوبات على التدخلات السياسية من خلال تشريع قوانين تمنع الأحزاب من التدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون النقابات، وفرض عقوبات على القيادات النقابية التي تثبت تبعيتها للأحزاب أو تنفيذها أجندات غير نقابية. بهذه الإصلاحات، يمكن للنقابات أن تستعيد دورها الحقيقي في الدفاع عن حقوق جمهورها والمجتمع بعيدًا عن النفوذ السياسي.