فراس الشاروط
سفيرتنا الى النجوم، جارة القمر، (هويتنا) كما قال يوما محمود درويش حين سأل عنها، هي (علينا أخطر من صواريخ الكاتيوشا) كما صرح أحد رؤساء الحكومات الاسرائيلية يوما، في اغانيها (الوطنية والعاطفية) وفي مسرحياتها وافلامها، لعبت دورا مهما وعجيبا في اغناء الذاكرة العربية وابقتها حية، وكان لصوتها القوة في التحريض على المقاومة والبقاء، تجربتها الطويلة عامل حيوي بأهمية دور الفن ووظيفته.
لقاء فيروز مع الاخوين رحباني (عاصي ومنصور) اشعل ثورة في الغناء العربي على امتداد اكثر من نصف قرن، قدمت معهم مئات الاغاني وعشرات المسرحيات والاسكتشات الاذاعية، وافلام سينمائية، تجربة فيروز السينمائية تكللت في ثلاث افلام، لمخرجين مصريين (يوسف شاهين و هنري بركات)
التجربة الاولى كانت علم (1965) مع المخرج الاشكالي الكبير (يوسف شاهين) حيث قدم مع الرحابنة فيلم(بياع الخواتم) الذي نستطيع القول عنه صعب التنفيذ ومتماسك فنيا، قام ببطولته نصري شمس الدين، عاصي الرحباني، والظاهرة فيلمون وهبي، عن سيناريو للرحابنة انفسهم، الفيلم مبني اساسا على بنية غنائية استعراضية لا تخلو من الكوميديا في مفاصله (نفس الثيمة في مسرح الرحابنة)، وفيه ايضا نفس اجواء مسرحهم (المختار، الضيعة، طيبة الناس، الاشرار الذين يكدرون صفو الحياة)، والحكاية ببساطة عن لعبة خبيثة يلعبها المختار (نصري شمس الدين) لبسط نفوذه على القرية، يبث الشائعات عن خطر يحدق بالأهالي مصدره (راجح) الذي يفسد بكل شيء جميل، المختار يرسل اعوانه لتخريب ما يمكن تخريبه في القرية ويعكر أمنها محيلا ذلك الخراب الى شخصية (راجح)، في النهاية تنكشف الكذبة عندما ياتي راجح الحقيقي ليلة عيد العزاب ليظهر انه لم يكن سوى (بياع خواتم) للصبايا المخطوبات اللواتي ينتظرنه بلهفة.
حكاية بسيطة، نمطية، مكررة، لكن من احياها وجود فيروز واجتهاد يوسف شاهين، اللذين لولاهما لذهب الفيلم الى النسيان، حيث تجلى اسلوب شاهين الخاص بالكاميرا وادارة المجاميع، وتوظيف الاغنية بشكل مناسب مع اجواء الحدث، هذا التوظيف الذي سيتجلى عمقه تاليا في فيلمه الرائع (عودة الابن الضال)، كذلك بنائية المكان (القرية) التي بدت واقعية بديكوراتها.
التعاون التالي بين الرحابنة والسينما كان مع المخرج (بركات) في فلمين اخرجهما لفيروز، الاول سنة (1967) هو (سفر برلك) الذي تدور احداثه ابان العهد العثماني، صورة للظلم ايام تلك الحقبة من تاريخ المنطقة العربية، قام ببطولة الفيلم نصري شمس الدين واحسان صادق، تدور الاحداث عام 1914 في ريف لبناني، عبر قصة حب بين عبلة و عبدو، قصة الحب هذه لا يكتمل لها اللقاء بسبب هروب عبدو المناضل من بطش العثمانيين، لتبقى الحبيبة في انتظار عودته.
الرحلة الاخيرة لفيروز في السينما كانت مع بركات ايضا في فيلم (بنت الحارس) 1968، عن سيناريو للرحابنة، وقام ببطولته ايضا نصري شمس الدين وإيلي شويري وعاصي الرحباني في دور رئيس البلدية، الحكاية بسيطة ايضا حيث يصرف حارس البلدة من الخدمة بعد ان استتب الامن فلم يعد بحاجة اليه، لتتخذ ابنته (فيروز) قرارا بكيفية اعادة ابيها الى العمل، فتقوم بارتداء قناع وتعبث بالقرية وتقلق راحة الناس، لتخلف الذعر بين المواطنين، وعلى ضوء الاحداث هذه يتم اعادة الاب للعمل لمطاردة منتهكي النظام، تتم المطاردة بين الاب والمشاغب ويتم القاء القبض عليه بعد اصابته بطلق ناري في كتفه، ليكتشف حينها حقيقة الملثم.
هذه هي رحلة فيروز السينمائية التي قدمتها مع الرحابنة، ولكن الظاهر ان التجربة السينمائية لم تستسغ لهم، توقفوا عنها بعد ذلك لتفرغوا نهائيا للمسرح الغنائي لعبتهم المفضلة، نقديا قد تبدو هذه الافلام ليست كبيرة بمقاييس الافلام العظيمة لكن بغض النظر فقد صنعت ببساطة فنية متناهية وفي كل الاحوال هي خطوة جميلة في مسيرة فيروز والرحابنة والسينما اللبنانية عموما، وهذا ما تحدثت عنه فيروز يوما في احد حواراتها ((افلامي هذه التي قدمتها للسينما، احبها كثيرا، وارى في صيغتها ما نفتقده اليوم))، خطوة لا يمكن تجاهلها واخراجها من ظرفها الزماني والمكاني.
من الذاكرة: رحلة (فيروز) السينمائية

نشر في: 20 مارس, 2025: 12:02 ص