سعد محمد رحيمطبقاً لمبادئ ومعايير عديدة يمكن وضع مفكري مدرسة فرانكفورت تحت خيمة الـ (ما بعد ماركس والماركسية). وهم على الرغم من افتراقهم عن ماركس على أصعدة متنوعة فإنهم ظلوا مستندين إلى أرضية ماركسية غير صلبة وغير نقية (غير أرثوذكسية بالمرة )، في تحليلهم التطور الاجتماعي في أوروبا النصف الأول من القرن العشرين. وكان رائدهم هو المنهج النقدي المشبع بالروح الماركسية، والذي تبنوه في مواجهة المناهج والنظريات الاجتماعية البرجوازية السائدة في حينها.
لم يكونوا ماركسيين بمعايير الستالينية، بطبيعة الحال، ولا حتى بمعايير الاشتراكية الديمقراطية والأوروشيوعية.. كانوا ماركسيين إلى الحد الذي لا يتورعون معه من نقد فكر ماركس نفسه، ناهيك عن الماركسية الرسمية السائدة التي طبعت سياسات العالم الشيوعي وخطابه بقوة، في ذلك الوقت، سواء في الاتحاد السوفياتي أو في أوروبا الشرقية.مثلت مدرسة فرانكفورت النظرية الاجتماعية النقدية، وانتقدت عقلانية الحداثة التي رأوا أنها تحولت إلى عقلانية تقنية أداتية خسرت جانبها الأخلاقي، وهي التي ستقود، إلى تسيّد الفاشية وما صنعتها من أهوال. وقد مارس أقطاب هذه المدرسة النقد الجذري لإرث التنوير ومن خلاله للواقع الأوروبي الذي عاصروه. وركزوا، على عكس توجهات الماركسية التقليدية، على فعل البنى الثقافية التي تمارس هيمنتها على حركة المجتمع، ولم يكتفوا بتفسير الظواهر فقط، تبعاً لفعل البنية الاقتصادية ـ التحتية، لأنهم شهدوا عالماً كانت الرأسمالية فيه أكثر مرونة وقدرة في معالجة أزماتها والتكيف معها. ولم يعد الصراع الطبقي فيه بتلك الحدّة التي ستصل بتناقضات المجتمع الرأسمالي إلى لحظة الثورة الاشتراكية. إلى جانب استحواذ الإيديولوجيات على عقول الناس وتحكمها بسلوكياتهم، وأحياناً إلى درجة لا معقولة، تصل حد الجنون الجماعي كما في النازية والفاشية.إن التنوير بحسب ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، وهما من أبرز مفكري هذه المدرسة يعد "وعلى مر الزمن، بالمعنى العريض تعبيراً عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيداً... كان برنامج التنوير برنامجاً يهدف إلى فك السحر عن العالم. لقد أراد التحرر من الأساطير وأن يحمل للمخيلة سند العلم".لم يتحرر العقل من الأسطورة، وإنما أوجد أسطورته الخاصة، وقع ضحية الأسطورة ثانية.. وما تحقق من تقدم في مجالات العلم والتقنية لم يحرر الإنسان من الخوف ولم يجعل منه سيداً.. تشيأ العقل وتشيأت الذات الإنسانية في إطار السيرورة التقنية، وأضحى العقل نفسه مساعداً للآلة الاقتصادية التي تشمل كل شيء؛ "إنها تعمل كما لو كانت أداة كونية تناسب صناعة كل الآلات الأخرى العقلانية المحضة المثقلة بالأخطار شأن مداولات الإنتاج المادي المحسوبة جداً والتي لا يمكن للناس احتساب نتائجها". هكذا اكتست طروحات أغلب مفكري مدرسة فرانكفورت بصبغة تشاؤمية شككت بمشروعي التنوير والحداثة. لكن مفكراً آخر هو يورغن هابرماس، سليل تقاليد تلك المدرسة ووريثها كتب، وأيضاً من مواقع اليسار، أن الحداثة مشروع مستمر، ودافع عن مبادئها التي هي مبادئ التنوير؛ العقل والحرية والأخلاق. يكشف هابرماس في كتابه ( القول الفلسفي للحداثة ) كيف أن العقل بصورته الغائية انتهى إلى الالتباس بالسلطة متخلياً عن قوته النقدية. وها نحن في عالم متصدع، معقد، من العسير تحديد شبكات علاقاته وأشكال صراعاته وكيفية تداخل خنادقه.. يقول هابرماس؛ "إن المجتمعات التي باسمها كان هيجل وماركس، وأيضاً ماكس فيبر ولوكاتش قد ميزوا داخل سيرورة العقلنة والاجتماعية، الجوانب التي تحمل التحرير والمصالحة من جهة، والجوانب القمعية وأسباب الانقسام من جهة أخرى باتت مثلومة. ومنذ ذلك الحين استولى النقد الهدّام على المفاهيم نفسها التي كانت تسمح بالتمييز بين هذه الجوانب، لكي يسلط الضوء على وحدتهما المفارقة, ومذ ذاك يختلط كل شيء؛ العقل المحرِّر والتلاعب، الشعور واللاشعور، القوى المنتجة وقوى التدمير، التحقق الذاتي المعبِّر وعملية التسفيه القامعة. النتائج التي تضمن الحرية وتلك التي تحرمنا منها، الحقيقة والإيديولوجيا". ويضيف؛ "إن الفروق والتعارضات باتت ملغومة، وأكثر من ذلك متداعية، إلى درجة أنه في الأفق المسطح والكالح لعالم يُدار كلياً ويخضع للحساب والسلطة، أمسى النقد عاجزاً عن تمييز التباينات والتلوينات المزدوجة". لا نريد الخوض في تفاصيل رؤى هابرماس حول مشروعي التنوير والحداثة وإنما أردنا الإشارة لبعض منطلقاته النظرية حول ذينك المشروعين تمهيداً لشرح مقارباته في الماركسية باعتبار الأخيرة وريثة التنوير البرجوازي وناقدته. استخدم هابرماس، بحسب المترجم الفرنسي لكتاب ( بعد ماركس )، المقاربات البنيوية والاجتماعية ـ التطورية والوظيفية والنفسية لإكمال الماركسية قبل أن يتجاوز هذه المقاربات بدورها، بالاعتماد على البنيوية التكوينية لبياجيه، ليحدد في النهاية منظوريته الخاصة". حيث أن المادية التاريخية ليست دلالة كشفية فحسب بل نظرية للتطور الاجتماعي. وقد تحدّث عن ( إعادة بناء للماركسية )، وعلى وجه التحديد للمادية التاريخية من طريق اشتغاله على مفاهيم ( نظرية التواصل ) حيث "لا يمكن أن يوجد تطور للقوى المنتجة دون ابتكارات مصاحبة على مستوى سيرورات التعلم ذات الطابع ( التواصلي ) أو ( العملي ) تتيح انبثا
مدرسة فرانكفورت؛ نقد أسس التنوير والماركسية
نشر في: 18 فبراير, 2011: 05:03 م