عبد الكريم البليخ
يُقال إنّ المال عصبُ الحياة، ويُقال أيضاً إنه زبالة الدنيا. بين هذين النقيضين، تتأرجح البشرية منذ أن خُلق الإنسان، وما زالت الحيرة تفتك بقلوب العاقلين، بين من يراه نعمة وضرورة، ومن يذوق مرارته فيتحوّل إلى نقمةٍ تفسد الأرواح وتُهلك الضمائر.
المال... هذا الكائن الصامت، الذي لا يتكلم، لكنه يقرر مصائر البشر. لا وجه له، لكنه يضحك لمن يشاء، ويبكي من يشاء. لا روح فيه، لكنه يُحرك الأرواح، ويوقظ في النفس شهوة التملك، وسُعار السيطرة، وجنون الخلود.
نعم، هو وسيلة للبقاء، لا أحد ينكر ذلك، ولكن متى تحوّل من وسيلة إلى غاية؟ متى أصبح الحاكم بأمره في تفاصيل حياتنا؟ متى تحوّل إلى ربٍّ جديد تُسجد له الجباه، ويُعبَد في الخَفاء؟!
حين يمرضُ الغني بمرضٍ عضال، لا يتردد في فتح خزائنه، يشتري الأمل، ويغلف الخوف بورقٍ من ذهب. يدخل أرقى المستشفيات، ويحظى بأمهر الأطباء، ويستبدل أعضاءه التالفة بأخرى مستوردة، وكأن جسده مشروعٌ استثماري يُعاد بناؤه في كل مرة. أمّا الفقير، يا للأسى، فإنه يتلوّى على سريرٍ قديم في مستوصفٍ مهجور، يُحدّق في سقفٍ متشققٍ وكأنه يرى قبره يقترب، وكل ما يملكه هو الصبر، وقليل من الدعاء، ودمعة تتسلل بصمت من عينه المنهكة.
رأيت ذلك بنفسي، ولم أسمعه فقط. تواصلت قبل أيام مع صديق بسيط، رجل طيب، من أولئك الذين يخبئون وجعهم تحت ضحكة خجولة. يعاني من مرض مزمن، دار على الصيدليات بحثاً عن دوائه، لا لأن الدواء نادر، بل لأن سعره باهظ كأنه ألماس. انتهى به الأمر بشراء طبق بيض، وقطعة لحم، وبعض الجبن، ليسد رمقه الجائع، وترك الدواء جانباً، مستسلماً للموت، لا قنوطاً، بل إدراكاً بأن الحياة لم تكتب له النجاة.
فهل هناك ظلمٌ أشد من أن يكون ثمن الحياة باهظاً إلى هذا الحد؟ وهل يُعقل أن يُقايَض جسد الإنسان بعملةٍ ورقية لا تسمن ولا تغني؟!
وفي الجهة الأخرى من المشهد، حيث يسطع المال لا كوسيلة للنجاة، بل كأداةٍ للجبروت. هناك، في قاعات السلطة، وفي أروقة القرارات السوداء، يُتخذ المال ذريعةً للحروب، وقنطرةً للدمار. تأملوا وجه بوتين، "القيصر الروسي"، حين قرر أن يُطلق العنان لغزو أوكرانيا، الدولة المسالمة، بقلوب أهلها الطيّبة. أيُّ شيطانٍ في أذنه ليختار أن يدمّر مدينةً عامرة، ويحوّل أطفالها إلى لاجئين، ونسائها إلى نائحات، وشبابها إلى أشلاء؟!
أهو المال؟ أم هي السلطة؟ أم أن المال والسلطة معاً حين يجتمعان يتحولان إلى إلهٍ جديدٍ لا يعرفُ الرحمة؟
الحرب لعينة، هكذا وصفها العالم بأسره، لا لأنها فقط دمرت البنية التحتية، بل لأنها بعثرت الأمل، ورفعت أسعار الغذاء والطاقة، وأدخلت الكوكب كله في دوامةٍ من الغلاء والمجاعة. كل هذا في سبيل ماذا؟! بضعة مليارات إضافية تُضاف إلى رصيد من لا ينام جائعاً، ولا يُطارد في وطنه، ولا يفقد عزيزاً كل صباح.
بوتين، بجبروته، لم يقبل وساطة، لم يصغِ لنداء، ولم يعبأ بدماء الأبرياء، تماماً كما فعل في سوريا، حين أمطر مدنها بالقذائف، وتركها أنقاضاً، وأحلام أهلها رماداً في مهب الريح.
ولكن، مرة أخرى، ماذا بعد؟
ماذا بعد تكديس الثروات، واستعباد الشعوب، ونصب العروش على جماجم الفقراء؟
ما قيمة المال حين يعجز عن شراء ضمير؟
ما جدوى المليارات حين لا تستطيع أن تشتري لحظة صفاء، أو قبراً أوسع من مترين؟!
أنظروا إلى قائمة الأثرياء... إيلون ماسك بثروته الخرافية التي تجاوزت 440 مليار دولار، وجيف بيزوس بـ254 ملياراً، ومارك زوكربيرغ بـ221 ملياراً، وقائمة لا تنتهي من أسماء جمعت من المال ما لا تستطيع أن تنفقه في ألف عام. وبوتين، يُقال إنه يملك أكثر من 200 مليار، ومع ذلك لا يشبع. كأن المال عند بعضهم لا يُشبع جوعاً، بل يُورث جوعاً آخر... جوع السلطة، جوع التملك، جوع الخلود.
لكن الحقيقة التي لا يمكن طمسها: لا أحد يأخذ معه شيئاً. لا قصر، لا حساب بنكي، لا شركات. فقط كفن أبيض، وقبر بارد، وسؤالٌ ينتظره في الآخرة: "من أين اكتسبت، وفيما أنفقت؟".
قال الله تعالى: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا..." نعم، هي زينة، لا أكثر. وليست معيار نجاة، ولا جواز عبور إلى الجنة. فقد يسبق الفقراء أهل الثروة إلى النعيم، بدموعهم التي لا تُرى، بصبرهم الذي لا يُشترى، برضاهم بما قسمه الله، ولو كان قليلاً.
أيها الفقراء، أيها الذين لم يجدوا ثمن الدواء، ولا لقمة العشاء، لا تيأسوا...
العدالة لا تموت، وإن تأخرت. والرحمة لا تنتهي، وإن اختبأت خلف الغيوم.
والجنة ليست حكراً على أصحاب الحسابات البنكية، بل ربما كانت أقرب لمن نام جائعاً ولم يسرق، وبكى مريضاً ولم يظلم، ومات مهموماً لكنه لم يبع ضميره. فلعل لعنة المال... تكون في النهاية طريقاً إلى الهلاك، لا إلى الخلود.
ويبقى السؤال: هل المال هو الطريق إلى الجنة؟!
نقولها بمرارة... لا.
فالله عادل، والمال ليس شفيعاً، بل قد يكون لعنة تلاحق صاحبه. فهذا لا يعني أنَّ أصحاب المال قد حجزوا مكانهم في الفردوس، بل ربّما سبقهم الفقراء، بصبرهم، ورضاهم، وقناعتهم، ودموعهم التي لا يراها أحد.
أيها الفقراء... لا تيأسوا، فثمّة عدالة تنتظر، وإن تأخرت.