أجرى الحوار: غريغوري لاسكي
ترجمة: لطفية الدليمي
في كتابه الجديد عقدُ الشيطان: تاريخ المقايضة الفاوستية Devil’s Contract: The History of the Faustian Bargain يتابعُ إدْ سايمون Ed Simon ما يحسبهُ "القصّة الأكثر جاذبية، والأكثر تحريكاً للمشاعر المستفزّة، والأكثر راهنية، والأكثر أهمية" بين كلّ القصص. هذه القصّة هي إحالة مباشرة إلى الإغراء البشري للتخلّي عن مبادئنا مقابل الهيمنة أو المال أو الإلهام الفنّي أو المعرفة. باختصار يمثلُ الكتاب حكاية توقيع على عقد مع الشيطان وختمه مقابل وعد ليست لنا قدرة على مقاومته.
يقدّمُ سايمون في كتابه الثاني عشر هذا (عقد الشيطان) قراءات مبهرة لموضوعات عديدة متباينة تمتدُّ من مارلو وغوته إلى فرقة رولنغ ستونز الغنائية والذكاء الإصطناعي. إنها مقاربة لا يقوى عليها سوى قلّة مخصوصة؛ غير أنّ سايمون يوازنُ ببراعة كبرى بين المعرفة المتخصّصة واهتمام الكاتب بأعلى أشكال الحِرَفية المفترضة.
في أغسطس (آب) 2024 مضينا أنا وسايمون في محادثة واسعة النطاق ومتعدّدة الإهتمامات عبر البريد الألكتروني بشأن أحدث كتبه (عقدُ الشيطان)، وتناولنا في المحادثة موضوعات حول الثقافة السياسية الأمريكية، والأحوال الأكاديمية، والكتابة، والعلوم الإنسانية في نطاقها الواسع، فضلاً عن موضوعات أخرى.
غريغوري لاسكي
الحوار
غريغوري لاسكي: سبق أن ذكرتَ لي أنّك في البدء تخيّلتَ الكتاب الذي صار لاحقاً (عقد الشيطان) قبل عقدين من الزمان. أخبرْنا قليلاً عن أصل الكتاب. ما الذي جذبك إلى موضوع هذا الكتاب؟
إدْ سايمون: راودتني الفكرة التي شرعت بالنمو لكتابة (عقد الشيطان) أوّل مرّة في مطعم تشيبوتلي في شارع بوم بوليفار في بيتسبرغ عام 2006 على الرغم من علمي أنّ مفيستوفيليس لم يكن حاضراً معي حينذاك!!. أتذكّرُ ذلك بوضوح تام لأنّني كنتُ أتناولُ الغداء في اليوم ذاته الذي شرعتُ فيه بمتطلبات درجة الماجستير في برنامج الدراسات الثقافية والادبية في جامعة كارنيغي ميلون. كنتُ منجذباً حينها بكلَ جوارحي نحو الأدب الحديث؛ لكن في الوقت الذي كنتُ أتناولُ فيه الطعام شرعتُ أفكّرُ في أنواع الأشياء التي يمكنني التركيز عليها في بحثي لدرجة الماجستير. لم تكن لي حينها دراية كافية بمدى التفضيلات الأكاديمية للمنح الدراسية الأكاديمية، وقد راودتني على نحو مفاجئ فكرةُ "تاريخ الأسطورة الفاوستية" كاحتمال ممكن. كانت هذه الفكرة ملحّة عليّ ولطالما عدتُ إليها على نحو متواتر. أعتقدُ اليوم أنّني وضعتُ عام 2014 المعالم الرئيسية للكتاب في هيكله الأساسي. ما جذبني إلى موضوع الكتاب -فضلاً عن كلّ الأسباب المعتادة التي تجعلُ الناس مهتمّين بالشيطان- هو الطبيعة البشرية لفاوست؛ فهو ليس وحشاً في ذاته، ومع هذا فهو مذنبٌ لكونه إرتضى بارتكاب عمل شنيع وقبيح. وجدتُ الشحنة الدرامية في حكاية فاوست مقنعة ومشجّعة للغاية.
في مقال لك نشرته مؤخراً صحيفة (نيويورك تايمز) إستخدمتّ عبارة (المقايضة الفاوستية) لتفسير مسيرة السيناتور (عضو مجلس الشيوخ الأمريكي) عن ولاية أوهايو: جَيْ. دي. فانس J. D. Vance الذي إختاره دونالد ترامب ليكون نائباً له. وفي كتابك (عقدُ الشيطان) كتبتَ أنّ "أمريكا ذاتها كانت صفقة فاوستية" تمّ توقيعُها على أجساد الشعوب المستعبدة والمبادة. كيف ترى مصير (عقد الشيطان) كأداة تصلح لتفسير سياسة الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين؟
- خلفيتي العلمية خليط من الدراسات الأدبية البريطانية الحديثة المبكّرة في بواكير القرن السابع عشر، وكذلك الأدب الأمريكي في ذات المقطع الزمني البريطاني. كانت إحدى الفوائد المجتناة من تعليمي وتحضيري للدكتوراه في جامعة ليهاي أنّ كثيراً من الأعمال النقدية التي قرأتها في نطاق القراءات المساعدة لتخصصي الرئيسي كانت في نقد مدرسة الأسطورة والرمز الأمريكية وشخصياتها الفاعلة الرئيسية من أمثال: ف. أو. ماثيسن، هنري ناش سميث، ليو ماركس، ريتشارد سلوتكين. جاءت قراءاتي هذه متناغمة مع الفكرة السائدة بأنّ أمريكا ليست سوى صفقة فاوستية.، وقد إقترن هذا التناغم مع هوى مسبق في نفسي يدفعني لتأكيد مصداقية هذه الفكرة.
لا أنكرُ أنّ هناك شيئاً مفيداً في هذه الفكرة. أمريكا فاوستية لأنّها تأسّست على فكرة تعاقدية: نحنُ أمّة أدبية عميقة تحدّدها بلاغة الكلمات في نصوص مكتوبة: (ميثاق ماي فلاور، إعلان الإستقلال، الدستور) بطريقة حديثة وفريدة للغاية. إنّ هذا العقد الذي تمثّله أمريكا يعدُ بالكثير:الحياة والحرية والسعي إلى السعادة؛ لكنّ هذا بالطبع لن يحجب الفظائع التي تأسّست عليها الأمّة الأمريكية. كانت السياسة الأمريكية دوماً تدورُ في مدار الدين حتى لو تظاهرت أمريكا بالإعلانات العلْمانية؛ فنحنُ دوماً المدينة التي على الجبل، والأمل الأخير الأفضل المتاح للعالم وما سوى ذلك في مخيلتنا الجمعية. أعتقدُ أنّ أيّ إعلان يستحضرُ الملائكة يستحضرُ الشيطان في الوقت ذاته، وأنّ المعرفة العملية الوثيقة بالمقاربة الفاوستية أمرٌ في غاية الأهمية إذا أردنا فهم التاريخ الأمريكي والسياسة الأمريكية.
أنت باحثٌ حاصلٌ على شهادة الدكتوراه PH.D؛ لكنّ كلّ كتبك المنشورة صدرت عن دور نشر متخصّصة ولم ينشرْ أيّ منها عن دار نشر جامعية. هل ترى نفسك باحثاً أم كاتباً في المقام الاوّل؟
- دعني أصحّح الامر لك. صدرت بعضُ كتبي المنشورة عن دور نشر معروفة برصانتها الأكاديمية حتى لو لم تكن تتبعُ جامعات معروفة، منها مثلاً: Academic,Bloomsburry, Fortress. أعملُ في الوقت الحاضر على كتابين لدار نشر جامعية من الدور التي تقصدها. بشأن الإختيار بين الكاتب والباحث إذا ما اضطررتُ إلى الإختيار فأراني كاتباً ولستُ باحثاً، وهذا بعضُ إسقاطات الطريقة التي تعملُ بها البيروقراطية الأكاديمية. أريدُ لكتبي أن تتجاوز الحدود الأكاديمية المسوّرة وتحقق مقروئية عالية، وفي الوقت ذاته أريدُ لها أن تتمثّل المنهج ذاته الذي تعتمده الدراسات الرصينة: تقديم الحجج، توضيح التفسيرات، توسيع المعرفة، وحتى التسبّب في شحن الخلافات. لا أريدُ للإنتشار الجمعي أن يكون على حساب الرصانة الأكاديمية بأيّ شكل من الأشكال.
عُهِدت إليك مؤخراً مهمّة (أستاذ خاص في الإنسانيات العامة Public Humanities) بجامعة كارنيغي ميلون. ما الذي يتطلّبه هذا الموقع، وكيف تحدّد "الإنسانيات العامّة"؟
- إنّه سؤال رائع. أظنّ بصرامة أنّ الإنسانيات العامّة تتحدّد جزئياً بما لا تمثّله، بمعنى ضرورة عدم إختزالها في عبارة (الرغبة في الترويج) التي تنطوي عليها مفردة (الجمعية). ليس ثمّة من خطأ أو مثلبة في الترويج واسع النطاق، أو ترجمة الأطروحات الدراسية للشهادات العليا إلى شيء مفهوم ومفيد لعامّة الناس؛ لكنّي أعتقد أنّ الإنسانيات العامّة وسيلة فريدة ومميزة لإنتاج المعرفة، فضلاً عن كونها أسلوباً ونوعاً أدبياً في حدّ ذاته.
عندما نفكّرُ في نوع الكتابة التي تحصلُ في نطاق الإنسانيات العامّة في مطبوعات أو مواقع ألكترونية على شاكلة: N+1, The New Inquiry، Los Angeles Review of Books فالأمر لا يختصُّ بموضوعة الترويج واسع النطاق فحسب بقدر ما هو محاولةٌ للإنخراط بكيفية جديدة غير مسبوقة في النقاشات الحجاجية الجديدة غير المستهلكة حتى لو كان المعروض الكتابي يخاطبُ غير المتخصّصين. في جانب من الأمر تعيد الإنسانيات العامّة النقاشات الأكاديمية إلى نوع من جمهورية الآداب في العصر الحديث المبكّرEarly Modern Republic of Letters، وهو الأمر الذي كان موجوداً قبل ظهور الجامعة البحثية في حلّتها الحديثة المعروفة. ما أودّ التأكيد عليه أنّ أحد الأهداف المعلنة للإنسانيات العامّة هو قراءتها على أوسع النطاقات المعلنة ليس بالأمر العرضي أو الصدفوي بل هو ضرورة إستلزمها التطوّر الثقافي العام وتعاظم تعقيدات حياتنا المعاصرة.
فيما يخصُّ جامعة كارنيغي ميلون حيث أعمل، واحدٌ من طموحاتي التي آملُ أن أحققها -إلى جانب مواصلة كتاباتي واهتماماتي الثقافية الخاصة- هو التفكير في الطرق والوسائل التي يمكن للجامعات عبرها أن تشرع في التعامل بشكل أكثر وضوحاً مع الإنسانيات العامّة وبخاصّة في الشأن الخاص بتدريب طلبة الدراسات العليا.
هل بمستطاعك أن تقدّم لنا ما تراه مثالك المفضّل لعمل في الإنسانيات العامّة تتشاركه مع طلبتك؟
- أشجّعُ طلبتي دوماً على القراءة الحثيثة والمدقّقة في Arts &Letters Daily كل يوم كجزء من تقاليدهم الكتابية. أعتقدُ أنّ الإنسانيات العامّة هي نوعٌ أدبي Literary Genre في نهاية الامر. كل يوم يمكننا أن نشهد كتابات جديدة رائعة في هذه اليومية المثيرة، والتعرّفُ على هذه العملية الدينامية يبعثُ فيك شعوراً كأنّك جزء من محادثة مستمرّة لا تنقطع.
أنت تقيمُ في مدينة بيتسبرغ Pittsburgh التي تحوي مشهداً ثقافياً غنياً وكثيفاً يمتدُّ إلى النطاقات الفنية الأدائية والبصرية والأدبية. هل تعتقد أنّ الفنون تلقى صدى لدى الجمهور العام والجهات المشرفة على أمر التمويل بأكثر ممّا تفعل الإنسانيات؟
- أعتقد أنّ هذا هو الحال السائد رغم وجود إستثناءات بالتأكيد. من الأيسر دوماً الحصولُ على منح لمشاريع فنّية بالمقارنة مع مشاريع الإنسانيات. هذا هو الترتيب الذي تعمل به المؤسسات الخاصة والتمويل الحكومي معاً: الأولوية لممارسات محدّدة ومنحها الأفضلية على ما سواها. من المؤكّد أنّ الفنون تتمتّع بخاصية الإعلان المباشر عن ماهيتها: حفل موسيقي يمكنك الذهاب إليه، أو معرض يمكنك رؤية محتوياته. الأمر أقلّ وضوحاً مع نواتج الإنسانيات.
يبدو أنّ المؤرّخين Historians غالباً ما يكون لديهم أكثر من مسار في طريق الإنسانيات العامّة. من أمثلة هذه المسارات: قدرتهم على كتابة سير ذاتية لشخصيات ذات شهرة، أو كتابة روايات لوقائع حقيقية. من جانب آخر يميلُ الباحثون الأدبيون إلى الكتابة عن النصوص (بمعنى أطروحات فكرية، المترجمة) كما فعلت في كتابك (عقدُ الشيطان)، وهذه النصوص أحياناً يجد الجمهور العام غير المتخصّص عنتاً ومشقة في التواصل مع متبنياتها الفكرية وبخاصة إذا لم يقرؤوها. هل يبدو لك هذا (التأطير الفكري) متوائماً مع تجربتك الخاصة؟
- ربّما قليلاً فحسب. كان التاريخ كنوع أدبي، دوماً، من أكثر الكتب التي تحقق مبيعات عالية. أسباب ذلك كثيرة وهي في مجملها ذات الأسباب التي ذكرتَها؛ في حين أنّ سرد الحبكات أقلّ قدرة على مجاراة اللعبة التسويقية، أو على الأقلّ هذا ما يراه الناشرون. نعم، الكتب التي تتناولُ السيرة الأدبية أو التاريخ تحقق مبيعات لا تحققها كتب النقد أو النظرية الأدبية والثقافية. على سبيل المثال هناك سيرة جديدة منشورة عن روبرت لويس ستيفنسون وزوجته حظيت بتغطية واسعة وحققت مبيعات ممتازة؛ لكنّها تتحدّث عن ستيفنسون وزوجته فحسب وليس عن جزيرة الكنز؛ لذلك تظلّ محسوبة على كتب التاريخ وليس كتب الأدب.
لكن برغم هذا فهناك أمثلة عن كُتّاب أكاديميين في الدراسات الأدبية من غير الأسماء اللامعة المعروفة لهارولد بلوم Harold Bloom وستيفن غرينبلات Stephen Greenblatt ممّن كانت لهم جاذبية فكرية مدهشة. أعتقدُ أنّ بعض الأسباب تعود لجانب مؤسساتي. الباحثون الأدبيون لا يتوجّهون بالكثير من الأسئلة للناشرين التجاريين بشأن المقاربات التي تحبب القرّاء غير المتخصصين في الدراسات الأدبية، ولو فعلوا هذا فإنّهم يكتفون بنطاق الادب القصصي وليس في مجمل النطاق الواسع لمباحث الإنسانيات.
ما الذي تعمل عليه الآن؟
- دائماً ما أعمل على عدّة موضوعات في الوقت ذاته؛ لكنّ المشروع الذي تعتريني حماسة طافحة للعمل عليه هو شيء بعنوان مؤقّت لا شيء حقيقي: تاريخ ثقافي للمحاكاة Nothing is Real: A Cultural History of the Simulation. وكما كان (عقد الشيطان) أوّل تاريخ تجاري لفاوست فإنّ مشروعي الجديد هذا سيسائلُ التاريخ الفلسفي الطويل للتحوّلات المختلفة التي رافقت الإعتقاد بأنّ كلّ ما نختبره في حياتنا ليس سوى وهمٍ بطريقة ما: من أفلاطون إلى الفلم السينمائي "ماتريكس"، ومن بودريار إلى التجربة الفكرية الخاصة بِـ (الدماغ في وعاء The Brain-in-a-vat).
غريغوري لاسكي Gregory Laski: كاتب عن الثقافة والحياة المدنية في الولايات المتّحدة ماضياً وحاضراً. ألّف كتباً عديدة، منها: الديمقراطية في غير أوانها: سياسات التقدّم بعد العبودية Untimely Democracy: Politics of Progress after Slavery المنشور عام 2018 (المترجمة)
إد سايمون: Ed Simon هو محرر مجلة Belt، وكاتب في Lit Hub، وكاتب فخري في The Millions، وهو مساهم متكرر في العديد من المواقع المختلفة، هو أيضاً مؤلف العديد من الكتب أحدثُها Devil’s Contract: The History of the Faustian Bargain، الذي نُشر في يوليو (تموز) 2024. حصل على درجة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية من جامعة ليهاي ودرجة الماجستير في الدراسات الأدبية والثقافية من جامعة كارنيغي ميلون. (المترجمة)
- الموضوع المترجم أعلاه هو ترجمة منتخبة لمعظم فقرات الحوار المنشور في مجلّة Los Angeles Review of Books (والإشارة المختصرة لها هي LARB) بتاريخ 8 تشرين أوّل (أكتوبر) 2024. العنوان الأصلي للمادة المنشورة هو:
America Is Faustian