بغداد / تبارك عبد المجيد
يواجه العراق واحدة من أخطر الأزمات المتمثلة في تفشي الفساد، الذي أصبح يشكل عقبة رئيسية أمام الاستقرار والتنمية. فقد صنفته منظمة الشفافية الدولية ضمن أكثر 25 دولة فسادًا في العالم، بينما تشير التقارير إلى اختفاء مئات المليارات من الأموال العامة خلال العقدين الماضيين. ومع استمرار نظام المحاصصة الطائفية والتدخلات الخارجية، يظل غياب الإرادة السياسية والإصلاحات الجذرية أكبر تحدٍ أمام مكافحة هذه الظاهرة. فهل يستطيع العراق تجاوز هذه الأزمة واستعادة ثقة مواطنيه؟
غياب الرؤية الوطنية!
بقيت التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، راسخة في المشهد السياسي منذ عام 2003 رغم بعض التغيرات الشكلية. ويبرز في مقدمة هذه التحديات نظام المحاصصة الطائفية، الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من بنية الدولة العراقية، بعدما تبنته الولايات المتحدة كحل سياسي في أعقاب سقوط النظام السابق.
ويرى المحلل السياسي أحمد الياسري أن "المحاصصة لم تساهم في استقرار العراق، بل على العكس، عمّقت الانقسامات بين مكوناته، وحوّلت المشهد السياسي إلى ساحة لصراعات مستمرة بين القوى المختلفة. فبدلًا من بناء هوية وطنية جامعة، باتت الطروحات السياسية محكومة بالهويات الفرعية، حيث يتحدث البعض عن "عراق سني" وآخرون عن "عراق شيعي"، بينما يروج القادة الأكراد لفكرة "عراق كردي"، ما يعكس غياب رؤية وطنية موحدة.
إلى جانب المحاصصة، يعاني العراق من تدخلات خارجية واسعة النطاق، تشمل أطرافًا إقليمية ودولية مثل الولايات المتحدة وإيران وتركيا، وهو ما انعكس سلبًا على استقلالية القرار السياسي العراقي. فهذه التدخلات لم تؤدِ فقط إلى تعميق الانقسامات الداخلية، بل جعلت العراق ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، مما زاد من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.
لكن التحدي الأخطر، وفقا للياسري، يتمثل في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. فقد تحولت هذه الظاهرة إلى بنية متأصلة داخل النظام السياسي والاقتصادي، تديرها "دولة عميقة" تعمل على حماية المتورطين وتكريس الفساد كجزء من ثقافة المجتمع.
ويؤكد الياسري في حديث لـ(المدى)، أن "الفساد لم يعد مقتصرًا على السياسيين وحدهم، بل أصبح مقبولا اجتماعيًا إلى حد كبير، حيث بات من الصعب على أي شخص النجاح في المجال السياسي أو تولي منصب حكومي دون الانخراط في هذه المنظومة".
أما عن الحلول، فيرى الياسري أن "إعادة هيكلة الدولة العراقية أمر لا بد منه، عبر تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وفصل السلطات لضمان سيادة القانون والحد من الفساد". كما يشير إلى ضرورة تعاون العراق مع المجتمع الدولي لاسترداد الأموال المنهوبة ووضع آليات رقابية أكثر صرامة لمنع تهريب الأموال إلى الخارج. مؤكداً أن تحقيق إصلاح حقيقي لن يكون ممكنًا دون دعم دولي جاد، نظًا لحجم التحديات التي يواجهها العراق حاليا.
في ظل هذه المعطيات، يبقى العراق أمام مفترق طرق حاسم، فإما المضي في مسار الإصلاح الحقيقي والتخلص من إرث المحاصصة والفساد، أو الاستمرار في دوامة الأزمات التي تعيق تقدمه واستقراره.
وفي السياق ذاته، يشير المحلل السياسي عصام الفيلي إلى أن العراق، منذ التغيير السياسي في 2003، بدأ في بناء دولة تعتمد على الشفافية في إدارة الموارد المالية، لكنه يوضح أن معظم القوى السياسية ركزت على السيطرة على الوزارات ذات الميزانيات الكبيرة، متجاهلة وزارات أخرى تدر إيرادات مهمة. ونتيجة لذلك، بات الاقتصاد الريعي القائم على النفط هو الأساس.
ويؤكد الفيلي لـ (المدى)، أن "الفساد في العراق يمتد إلى غياب الحسابات الختامية وعدم تقديم تقارير دقيقة عن الميزانية، حيث يوجد تبادل غير شفاف بين الميزانية المرسلة من الدولة والميزانية المقدمة للبرلمان، ما يؤدي إلى تعقيدات كبيرة في إدارة الأموال العامة. كما أن منظومة الفساد تحظى بحماية خارجية، حيث يتمكن بعض كبار الفاسدين من الإفلات من المحاسبة حتى بعد إدانتهم".
ويرى الفيلي أن "المحاصصة والطائفية والفساد تمثل أبرز ملامح المشهد السياسي في العراق منذ 2003، مشيرًا إلى أن جميع القوى السياسية أسهمت في ترسيخ هذه المشكلات. كما أن غياب جهة سياسية تتبنى الكفاءات المستقلة يجعل بناء دولة مؤسساتية حقيقية أمرًا بالغ الصعوبة". ويضيف أن "الصراعات بين المكونات السياسية تظهر عند تعارض المصالح الحزبية، مما يؤدي إلى تصاعد الاتهامات المتبادلة بالمحاصصة والطائفية، ويُضعف النظام الديمقراطي في البلاد". أما عن الحلول، فيرى الياسري والفيلي معًا أن إعادة هيكلة الدولة العراقية أمر لا بد منه، عبر تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وفصل السلطات لضمان سيادة القانون والحد من الفساد. كما يشيرون إلى ضرورة تعاون العراق مع المجتمع الدولي لاسترداد الأموال المنهوبة ووضع آليات رقابية أكثر صرامة لمنع تهريب الأموال إلى الخارج. ويؤكدان أن تحقيق إصلاح حقيقي لن يكون ممكنًا دون دعم دولي جاد، نظرًا لحجم التحديات التي يواجهها العراق حاليًا.
في الوقت الراهن، لا يعتبر الفساد في العراق مجرد مشكلة عابرة، بل تحول إلى ظاهرة متجذرة تتطلب جهودًا استثنائية لمعالجتها، وفقًا لما أكده المحلل السياسي علي البيدر لـ(المدى)، وأوضح أن الفساد موجود في مختلف دول العالم، لكنه في العراق أصبح أكثر وضوحا وتأثيرا، حيث لا يقتصر على مجرد تجاوزات فردية، بل يشكل تحديًا كبيرا يعرقل التنمية والاستقرار.
وأشار البيدر إلى أن الحل لا يكمن فقط في المبادرات الحكومية، بل يتطلب إرادة سياسية جادة ودورا حقيقيا للجهات الرقابية، التي تعاني في بعض الأحيان من ضعف الإمكانيات والمصداقية. كما شدد على أهمية دور المواطن، معتبرا أنه جزء من المنظومة الفاسدة حين يتجاهل القوانين ولا يلتزم بدفع المستحقات المالية للخدمات العامة.
وأكد أن التصدي للفساد يستوجب تكاتف جهود جميع الأطراف، بما في ذلك مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، إلى جانب الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية والعشائرية. كما لفت إلى أن الحكومة تتحرك ببطء في هذا الملف نتيجة النفوذ القوي للفاسدين، الذين يسيطرون على المشهد السياسي ويعرقلون أي إصلاح حقيقي.
وفي سياق آخر، أشار البيدر إلى أن هناك أطرافا دولية قد تساهم في تفاقم الأزمة، مما يزيد من تعقيد جهود مكافحته. وخلص إلى أن محاربة الفساد يجب أن تكون جزءًا من مشروع وطني شامل، يشارك فيه الجميع لضمان تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة.
وكانت مبعوثة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، قد صرحت في تشرين الأول/أكتوبر 2022: "يمثل الفساد المستشري سببًا جذريًا رئيسيًا للاختلال الوظيفي في العراق".