في مجموعة قصصها (نحيب اللوز) التي اختارها وقدم لها وترجمها عن الفرنسية الكاتب والمترجم الجزائري (حسن دواس) والصادرة مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، تحكي الكاتبة غريبة الاطوار والأصول (إيزابيل ابرهاردت) شيئا من حياتها المثيرة، هناك بين خبايا تلك القصص نعي جيدا العوالم التي عاشت فيها، نتفهم بإصرار التجربة الصاخبة بأحداثها الغرائبية، فما من قراءة لهذه القصص الخمس التي ضمها الكتاب إلا وجعلتنا نعمل على سبر أغواره في معرفة النسق التأريخي في مرحلة أولئك البشر الذين جعلت منهم إيزابيل شخوصاً وابطالاً نموذجيين، أولئك الأشخاص الذين تقلبت حياة إيزابيل بينهم قبل أكثر من مائة عام حين نشبت أنياب المستعمر الفرنسي في قلب الجزائر، معرفة حيثيات العلاقات العاطفية والإنسانية بين مستعمرين ومستعمرين بكسر الميم وفتحها ونوع الصراعات والأطماع والغايات ومفاتيح الخيانات والأوبئة الأخلاقية ونظم العيش وغير ذلك النظم الثقافية والنشاط الأدبي والفني ومحافل الهيجانات السياسية والاقتصادية والروحية ونوع الأسئلة المتاخمة لكل ذلك عن الخيبة واللاجدوى والمرض والدين والموت والحب.
كانت الغاية الأكبر تلك التي عاشت لأجلها إيزابيل او التي كتبتها في قصصها أو التي كتبتها كتقارير بوصفها مراسلة حربية ـ وهي بالمناسبة أول امرأة تعمل في هذا العمل كمراسلة حرب ـ كانت الغاية هي فضح القسوة والكراهية الملوثة مرة برائحة الانتقام الآني الشخصي ومرة بذلك الانتقام المضمر ضد المطالبين بحقوقهم واستقلالهم.
في تلك القصص وفي قصص كثيرة كما في يومياتها التي ترجمت لعديد لغات توجز لنا إيزابيل موقفها الإنساني لصالح الجزائر وشعبه وحقوقه والذي على أساس مبادئها في الإحساس بحقوق أخوتها البشر جعلها تحرم هي من حقوق كثيرة وصارعت مرارات شنيعة وهي تحاول في خطاها أن تنحاز إلى افقها الإنساني الخاص الحر. وهي الخطى ذاتها التي مضى عليها في ما بعد مثقفون فرنسيون كثر لصالح استقلال الشعب الجزائري من أمثال جان بول سارتر وغيره
بمختصر شائع وهو ليس مفيدا وكافيا إن إيزابيل ابرهاردت روسية الأصل ولدت بتاريخ العام 1877 في جنيف، عاشت جزءا من حياتها في فرنسا ثم لتنتقل في ريعان شبابها مع أمها ـ التي اعتنقت الإسلام ـ إلى مدينة عنابة في الجزائر العام 1897 وتوفيت إيزابيل يوم 21 أكتوبر 1904 في عين الصفراء الجزائرية ودفنت هناك. وتعد في الحاضن النقدي الفرنسي والعالمي أيضا واحدة من أهم الكاتبات في نهاية القرن العشرين لما تمثله نصوصها وحياتها مختبر لتلك الفترة الزمنية وتحولاتها.
ودون الخوض في التفاصيل الكثيرة التي كتبت بلغات كثيرة عن هذه الحياة النادرة التي عاشتها إيزابيل لكن من اجل القفز على هذه التفاصيل لا يمكن مغادرة متعة الإعادة والتعرف على أن إيزابيل تتخلص من غربتيها الطبيعيتين المقدرتين كونها وجدت نفسها أنثى مهزومة وهي جزء من بلد مستعمِر هو فرنسا لتمضي إلى حيث فيالق البشر المستعمرة بفتح الميم لتعيش هناك في الجزائر بملامح ولباس رجولي لم يفارقها حتى الموت، هذا فضلا عن اتخاذها اسما مذكرا لفترة من الزمن وهو (محمود سعدي) ومن ثم بعد أن تزوجت واعتنقت الإسلام سميت باسم عربي هو ليلى محمودة.
ولا بد هنا أيضا من وقفة أمام مترجم قصص (نحيب اللوز) وهو الذي قدم للعربية أكثر من كتاب عن إيزابيل وحياتها وإبداعها، فضلا عن بحوثه الأكاديمية عنها، هو الكاتب والشاعر والمترجم الجزائري حسن الدواس فما أن نقرأ هذه القصص حتى نتلمس الأفق الواسعة والزاخرة في المعجم الذي يستند إليه دواس عربيا وفرنسيا معجم لغة ومعجم تاريخ ومعجم فهم للكلمتين العربية والفرنسية بكل ثقلهما وإصرارهما على إيضاح المعنى المتواضع عليه مرة والمعنى الشعري الحاذق والخارق مرة أخرى، نعم أنا لست عارفا باللغة الفرنسية لكني حين استغرق في التعريف والتشبيه والوصف والالتفات والاستباق في كل سطر من سطور القصص وأقارن بينها وبين كل تلك النيران الملونة التي وضعها التشكيليون المستشرقون في لوحاتهم عن الشرق أتعرف حينها إلى اي مدى كانت قدرة حسن الدواس فائقة في متعته وهو يترجم متيقنا من أن كل ما عنته إيزابيل بالفرنسية هو ذاته فعله بإصرار ليكون بالعربية صوتا وصورة وثقافة وإيحاء وغاية وموقفا..