د. نادية هناوي
- 1 -
(حتى أنت يا بروتوس) مقولة شهيرة جاءت في مسرحية(يوليوس قيصر) لوليم شكسبير. وتمثل آخر كلمات قالها القيصر الروماني لصديقه بروتوس وهو يغتاله طعنا حتى الموت. ولقد عاش بروتوس ما بين 85-42 ق. م. وأصبحت المقولة بمرور الزمان مثلا، يُضرب على الغدر والخيانة التي تأتي من طرف الصديق الحميم. وكثيرة هي التناصات الأدبية مع هذه المقولة، ومنها مسمى "عقل بروتوس" ويعني آلة ذكية صممت لغرض إنتاج إبداع أدبي، فيه الدليل على ما للذكاء الاصطناعي من دور تآمري في صناعة النصوص الأدبية. هذا ما جاء في كتاب(الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي داخل عقل بروتوس: ماكنة رواية القصص) للباحثين الأمريكيين البروفيسور سلمر برينجورد وعالم الحاسوب ديفيد فيروتشي. وتقوم فكرة الكتاب على فرضية أن الذكاء الاصطناعي يخون الأدب البشري ويتآمر عليه كي يزيحه ويحل محله. وإذا يعتبر المؤلفان أن ثمة تزاوجا أو تعشيقا بين الإبداع الذي أساسه التخييل وبين المنطق الذي أساسه الخوارزميات، فإن ذلك قد يكون ممكنا نظريا لكنه غير متاح عمليا؛ إذ كيف يمكن لبرامج محسوبة حسابا دقيقا وبمكونات رقمية لا تقبل نقصا أو زيادة أن تكون قابلة بالعموم والإطلاق للخلط والتلاعب واللاتقييد مما تقتضيه عملية التخييل الأدبي؟ وهل يمكن لمتضادين مثل المخيلة والحوسبة أن يجتمعا ويشكلا طرفي معادلة تعمل بشكل سليم ومنتظم؟!!
يتفق مؤلفا الكتاب شكلا ومضمونا على اقتران الإبداع بالمنطق حتى كأنه أمر واقع ومفروغ منه، ولا حاجة به إلى أي إثبات. تدل على ذلك مقدمة الكتاب وهي بقلم ديفيد فيروتشي وعنوانها(زواج المنطق والإبداع) وما تقديم مفردة المنطق على الإبداع سوى مؤشر واضح على الانحياز إلى المنطق بوصفه حاكما على الإبداع أي أن لا قدرة للإبداع على أن يتجاوز المنطق بله أن يهزمه!!. وضرب فيروتشي مثلا على ذلك بالبشر فهم يقترنون وتجري اتحادات بينهم مع أنهم قد لا يتوافقون مع بعضهم بعضا. وبناء على ذلك يكون متاحا لبرنامج حاسوبي معين أن يكون قادرا على توليد الأدب وإنتاجه. وينقل فيروتشي عن روائي شهير لم يذكر اسمه، أنه رفض هذا التخريج على أساس أن الإبداع والمنطق بعيدان عن بعضهما بعد الشرق عن الغرب، والاستعارة صناعة تتم خارج نطاق المنطق وبعيدا عن نطاق الآلات. وهنا يردّ فيروتشي بالقول: (إن هذا مجرد رأي شخصي، وأن الحقيقة هي في ما يتجسد على مستوى واسع فيه الإبداع ينطوي على قواعد تتعلق بالعواطف واللاعقلانية، بما يسمح للمنطق أن يخرقها.)
ونقل عن سيغموند فرويد رأيه في أن الإبداع يربط بين الفن واللعب، وأنه يتطلب قدرا من المبادئ العقلانية. بمعنى أن الإبداع من دون المنطق هو مجرد لهو ولغو وفوضى وبلا أية جدية. ويصف فيروتشي الابداع بالفضاء الذي لا يقعِّد أبعاده إلا المنطق. ويرى ذلك منطبقا على مبدعي الروائع مثل تولستوي وجيمس جويس وموريسون. ولكن هل كان هؤلاء وغيرهم يولون المنطق اعتبارا فيما كتبوه من نصوص وما جربوه من تقانات؟
لا يني فيروتشي يدافع عن فكرة اقتران المنطق بالإبداع، مبينا أن كثيرين يطرحون سؤالا محددا لكن بأشكال مختلفة وهو: هل يمكن للحاسوب أن يهزم كاسباروف أفضل لاعب شطرنج؟ والجواب -بحسب فيروتشي – نعم، إذ يمكن للحاسوب بكل تأكيد أن يكون من القوة ما يجعله يتمكن من الانتصار على لاعبي الشطرنج البشر لكنه استدرك بأن إثبات هذا الأمر يحتاج عقدا آخر من الزمن حتى تتم برهنته فعليا، وتفاءل أن الربوتات ستصبح قريبا أكثر ذكاء من البشر.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي دخل كل مجالات الحياة العلمية وميادينها العملية بما فيها مجال الأدب وأنشطته الفنية، غير أن إثبات قدرة الحواسيب والروبوتات على الحلول محل الأديب والانتصار على الإبداع البشري ما يزال أمر التكهن به واستشراف مستقبله مثار جدل حقيقي.
من هنا سعى مؤلفا الكتاب إلى اختبار ما إذا كان الإبداع الأدبي هو المجال الوحيد الذي لا يمكن منافسة البشر فيه، وذلك من خلال بنائهما مؤلف اصطناعي اسمه بروتوس Brutusهو(أول ثمرة لعملنا وقد استغرق العمل عليه خمس سنوات مع نصف عقد آخر خُصص لأنظمة أقل طموحًا) وبروتوس عبارة عن عقل آلي يصنع قصصا وهو متخصص في سرد ما يعد أولاً وقبل كل شيء (خيانة) لأن عمله يقوم على الخداع الذاتي في تأليف الموضوعات الأدبية.
أما الطريقة التي بها يعمل عقل " بروتوس" فتتمثل في لعبة الشطرنج على أساس أن نقلات القطع تحتاج منه ذكاء، به يضمن الفوز، فكذلك الإبداع الأدبي يتطلب ذكاء يمكن للآلة أن تصنعه فتهزم الذكاء البشري. بيد أن الشطرنج لعبة تقوم على حسابات منطقية رياضية هي أشبه بالخوارزميات. ولا يصح هذا الذي تقدر الآلة على مجاراته بوساطة عقل بروتوس، مع الإنتاج الأدبي الذي هو ليس حسابات رياضية، وإنما مجموعة مشاعر فيها القوي الصاخب والهادئ المستكين، وهي تتداعى على وفق ميكانيزميات شعورية وغير شعورية. الأمر الذي يوسِّع الفجوة ما بين الفكر الرياضي والإبداع الأدبي. وليس كما يذهب المؤلفان من أن عقل بوروتوس يقلص المسافة ما بين منطق الآلة الاصطناعي ومتخيل الأدب البشري.
وإذ يستوقف سؤال الإبداع الأدبي المؤلفيَن سلمر برينججورد وديفيد فيروتشي، فإنها يعمدان إلى تقسيم ميكانيزما الإبداع إلى قسمين: الأول إبداع يوصف بأنه (ابتكار جذري) أي أصيل وجديد ورائد، لم يسبق أن استعمل فكأنه مصنوع من العدم أو اللاشيء. ومثالهما على هذا النوع اكتشاف الهندسة الإقليدية التي فيها تكون مجموع زوايا المثلث لا تساوي 180 درجة. وهذا ما يقع خارج نطاق قدرة الآلات على ابتكاره أو توليد مفاهيمه. أما القسم الثاني فإبداع ضعيف يتمثل في الأفكار المولدة من الأفكار الأصيلة من خلال الدمج أو الابتكار. وهذا ما يمكن للآلات أن تقوم به وتصنعه حيث يمكنها إعادة دمج الأفكار بطريقة جديدة لم يتم تطبيقها من قبل لكنها مع ذلك تعتمد على المدخلات البشرية وتحصيلات المعرفة المتراكمة، مما تمت عملية برمجته سابقا.
ويحمل هذا التقسيم لميكانيزما الإبداع المؤلفين إلى اعتماد اختبار علمي، كان قد وضعه عالم المنطق والحاسوب الان تورينغ. ويقوم على معايير خاصة في اكتشاف مدى إبداع الآلات في محاكاة سلوك البشر. ومنطقية الاختبار تتمثل في أن الآلة إذا تمكنت من محاكاة محادثة بشرية بشكل مقنع فذلك يعني أنها قادرة على التفكير. وهنا نتساءل: هل يعني اجتياز هذا الاختبار أن الآلات تملك بالضرورة قدرة على صناعة إبداع أدبي بنوعيه القوي والضعيف؟
إن الآلة كما هو معروف مبرمجة على أنماط بعينها وموجهة نحو معالجة بيانات متراكمة، ومن ثم هي ليست مجهزة لأن تبتكر من العدم شيئا أو تأتي بما لم يأت به السابقون من الأدباء والمفكرين.
ويتمثل الأساس المرجعي الذي إليه يستند فيروتشي في أربعة مفكرين روجوا لسردية الذكاء الاصطناعي هم: هانس مورافيك/ وراي كوزويل / نيل غيرشينفيلد /كيفن ورايك. ووفقا لهؤلاء تغدو الروبوتات آلات عقلية وروحية تستطيع التفكير، ومن خلال ذلك ستتجاوز الذكاء البشري وستزحف باتجاه السيطرة على العالم.
لم يستطع فيروتشي أن يخفي استغرابه من مثل هذه التصورات أو النبوءات بالقول: (إن العديد من هذه التنبؤات أمور تثير الضحك إذ على سبيل المثال يفترض مورافيك أن الروبوتات ستصبح أكثر ذكاء بسرعة لدرجة أن عام 2040 سيشهد ظهور روبوتات الجيل الرابع التي ستتفوق في جميع نواحي الحياة. وأنها لن تقف عند الذي هي عاملة فيه حاليا، مثل التصنيع والعمل البدني الصارم بل ستقوم أيضا بتشغيل الشركات وعمل الأبحاث. والمشكلة الرئيسة في هذه التنبؤات هي أنها غير متسقة تماما)
إن هذا الاستدراك الذي به يعقِّب فيروتشي على آراء مورافيك، يكشف مقدار تهويل أمر سردية الذكاء الاصطناعي من ناحية التطلع إلى صناعة إبداع أدبي فني آلي، يحل محل الإبداع البشري.
المؤلف الاصطناعي وجوهر العملية الإبداعية

نشر في: 6 إبريل, 2025: 12:03 ص