بغداد/ تبارك عبد المجيد
في شوارع تغيب عنها فرص العمل، وتُضاء بواجهات كليات طبية في كل زاوية، يجد خريجو الصيدلة في العراق أنفسهم وسط مفارقة قاسية: وفرة في الشهادات، وندرة في الوظائف. هذه المفارقة لا تنحصر فقط في الأبعاد الأكاديمية والمهنية، بل تمتد لتكشف خللًا أعمق في منظومة التخطيط الاقتصادي والصحي للبلاد.
الحكومة العراقية أعلنت في العام 2024 عن تعيين 30 ألفا من خريجي الكليات الطبية والصحية. الا ان هذه القرارات تعتبر غير كافية لتغطية الأعداد المتزايدة، حيث تعاني المؤسسات الصحية من تخمة وظيفية، ما يجعل من الصعب استيعاب المزيد من الخريجين.
ووفقاً لمجلس الخدمة الاتحادي، تم تعيين 7038 فردا في وزارة الصحة لعام 2021، لكن أعداد خريجي الصيدلة تضاعفت، حيث بلغ عددهم 6 آلاف صيدلي في 2021 و12 ألفا في 2022، مما يزيد من تعقيد الأزمة ويعكس الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق.
صيادلة يتحدثون
في زقاق صغير على أطراف العاصمة، يقف رأفت خلف وراء عربة بسيطة يبيع من خلالها الفلافل والبرغر، قد يبدو المشهد عادياً لوهلة، لكن الحقيقة تحمل مفارقة مؤلمة: رأفت خريج صيدلة، خمس سنوات قضاها بين المحاضرات والمختبرات، أنهكته فيها تكاليف الدراسة وضغوط الامتحانات، على أمل أن يتوّج مشواره بمكان لائق في القطاع الصحي.
"انتظرت طويلاً، طالبت بحقي في التعيين، لكن لا حياة لمن تنادي"، يقول رأفت لـ(المدى) بنبرة تجمع بين المرارة والإصرار، مضيفاً: "اليوم، وجدت نفسي أبدأ من جديد، لا في مختبر أو صيدلية، بل في كشك صغير يعينني على مواجهة الحياة".
رأفت ليس حالة فردية. آلاف الخريجين من كليات الصيدلة، لاسيما من الجامعات الأهلية، باتوا يواجهون مصيرا مشابها. ملاك عزيز، خريجة حديثة، تروي لـ(المدى) ملامح المشهد الذي بات مألوفا: "المنافسة شرسة، وتكاليف فتح صيدلية أصبحت عبئا لا يُحتمل، في ظل هيمنة جهات متنفذة على سوق الدواء والمراكز الطبية".
تؤكد ملاك أن غياب الدعم الحكومي لإنشاء مصانع أدوية أو مراكز أبحاث متخصصة ساهم في تضييق الخناق على الخريجين، "فلا وظائف حكومية، ولا فرص حقيقية في القطاع الخاص، والنتيجة: بطالة جماعية أو هجرة بحثا عن حياة أفضل".
في الساحات الافتراضية وعلى أرض الواقع، لا يزال صوت الخريجين يعلو في احتجاجات مستمرة أمام وزارتي الصحة والمالية، مطالبين بإيجاد حلول تتناسب مع حجم الكارثة. تؤكد ملاك: "لا رؤية حكومية واضحة تجاه أعداد الخريجين أو حاجات سوق العمل. من غير المعقول أن يتحمّل الشباب ثمن سوء التخطيط".
ويبدو أن الأزمة تنعكس على صورة النظام الصحي برمته. العراق، بحسب مؤشر الرعاية الصحية العالمي الصادر عن مجلة CEOWORLD لعام 2024، حلّ في المرتبة 71، بينما صنّفه موقع Numbeo كثالث أسوأ دولة في مجال الرعاية الصحية الأولية، وهو ما يكشف خللاً عميقا في منظومة يُفترض أن تستوعب هذه الكفاءات الشابة.
"العمل ليس عيبًا، لكن من الموجع أن يتحول حلم الصيدلي إلى كشك فلافل"، يعلّق خلف قبل أن يُنهي حديثه بمناشدة: "نحتاج إلى حلول واقعية، لا وعودًا كاذبة. إما تعيين، أو دعم فعلي للمشاريع الصغيرة كي نبني مستقبلنا بأنفسنا".
في الوقت الذي لا يزال فيه آلاف من خريجي الصيدلة يبحثون عن فرصة عمل تحفظ ماء وجه سنوات طويلة من الدراسة والتكاليف، تتوالى التحذيرات الرسمية والمهنية من انفجار قادم في أعداد العاطلين عن العمل من أصحاب "المعطف الأبيض".
رئيس لجنة الصحة النيابية، النائب ماجد شنكالي، كان قد أثار جدلاً واسعاً في تشرين الثاني 2024 حين صرّح أن "العراق يعاني فائضا بنسبة 200% في عدد الأطباء والصيادلة"، مشيرا إلى أن مستشفى محلي خضع لدراسة من شركة إيطالية لم يحتج لأكثر من سبعة صيادلة فقط، من أصل 200 متوفرين في المنطقة، ما يعكس حجم الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات المؤسسات الصحية.
وبالرغم من أن شنكالي تراجع عن دقة تلك النسب، موضحا في حديث مع مراسل (المدى) أن التصريحات السابقة "قديمة جدًا"، وأن الأزمة تتركز اليوم في خريجي الأعوام الأخيرة، إلا أن الواقع لا يزال يعكس أزمة متفاقمة في التخطيط الصحي والجامعي. بالرغم من ان تصريحة السابق لم يمض عليه سوى 5 أشهر.
نقابة الصيادلة تُحذر
من جهتها، أطلقت نقابة صيادلة العراق ناقوس الخطر مرارا، مؤكدة أن "الزيادة الكبيرة في أعداد الصيادلة قد تؤدي إلى أزمة خانقة في فرص العمل، سواء في القطاعين العام أو الخاص".
وفي حديث لـ (المدى)، يقول أسامة هادي حميد، المتحدث الرسمي باسم النقابة، إن "عدد الصيادلة تجاوز 40 ألفا، ولا تزال الأعداد في تصاعد مستمر"، في حين أن البنية التحتية الصحية لم تتطور بالوتيرة الكافية لاستيعاب هذا الكم الهائل من الخريجين.
وأشار حميد إلى أن "السبب الرئيس وراء هذه الأزمة هو الانتشار الواسع لكليات الصيدلة، دون وجود توسع مماثل في المؤسسات الصحية التي بقيت على حالها، أو شهدت زيادات طفيفة غير كافية"، محذرا من أن استمرار هذا الاتجاه قد يدفع الكثير من الصيادلة للعمل في مجالات لا تمت لاختصاصهم بصلة.
ووفقًا لتحذيرات النقابة التي صدرت عام 2023، فإن العراق قد يشهد فائضًا يصل إلى 98 ألف صيدلي بحلول عام 2030، إذا لم يتم تقييد نسب القبول في كليات الصيدلة، ووضع ستراتيجية واضحة لتنظيم المخرجات الأكاديمية.
وحول سبل مواجهة هذه التحديات، يؤكد حميد أن النقابة تدرس عدة حلول، منها تقليل أعداد المقبولين في كليات الصيدلة، وفتح مجالات عمل جديدة للصيادلة مثل إنشاء مصانع أدوية، ومختبرات تحليل، ومراكز أبحاث طبية. ولفت إلى أن مثل هذه المبادرات قد تخلق توازنا في سوق العمل وتوفر بيئة مهنية تتناسب مع تخصص الخريجين.
وشدد حميد على ضرورة وضع خطط استراتيجية شاملة لضبط مخرجات التعليم العالي، بما ينسجم مع احتياجات السوق، "حتى لا تتحول الشهادة الجامعية إلى عبء على أصحابها، بدلاً من أن تكون بوابة لمستقبل أفضل".
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي أحمد عيد أن المشكلة لم تعد تقتصر فقط على فائض الخريجين، بل تتجذر في بنية القطاع الصحي ذاته، والذي يعاني من "ترهل وظيفي كبير يعوق التقدم ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين". وفي حديثه لـ(المدى)، شدد عيد على أن "حل هذه الأزمة يتطلب جهودا حقيقية لإعادة تأهيل مصانع الأدوية الوطنية وتقليل الاعتماد على الاستيراد، إضافة إلى توسيع المراكز الصحية بما يتلاءم مع النمو السكاني".
ويدعو أيضا إلى "وضع خطط وطنية مدروسة تتماشى مع حاجة السوق"، مشيرا إلى أن تكدس الخريجين من دون حاجة حقيقية في المؤسسات الصحية، ومع الترهل الإداري القائم، لا ينعكس فقط على جودة الرعاية الصحية، بل يُثقل أيضًا كاهل الدولة اقتصاديا. يضيف: "الأعداد الكبيرة من الخريجين، في ظل غياب رؤية واضحة، تخلق فجوة في سوق العمل، وتُساهم في زيادة العجز بالموازنة العامة، مما يُشكّل عبئا اقتصاديًا متناميا".
في خضم هذه التحديات، تتعدد المقترحات: تقليل أعداد المقبولين في كليات الصيدلة، إنشاء مصانع ومختبرات جديدة، وتفعيل الشراكات مع القطاع الخاص. لكن جميع هذه المبادرات تظل رهينة التنفيذ، وتحتاج إلى إرادة سياسية واستراتيجية وطنية طويلة الأمد تعيد تنظيم العلاقة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق.
وفي ظل هذا الغموض، يواصل آلاف الصيادلة العاطلين عن العمل طرق أبواب البدائل، من الوظائف الإدارية إلى العمل الحر، فيما يستمر آخرون في التظاهر أمام الوزارات، حاملين آمالهم في جيوب مليئة بالشهادات، وخالية من الفرص.