محمد علي الحيدري
في الخامس من أبريل 2025، تحولت شوارع أميركا إلى ساحات لاحتجاجات واسعة، انطلقت من نيويورك إلى لوس أنجلوس، حيث هتف المتظاهرون ضد السياسات الاقتصادية والإدارية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب. ومع مرور الوقت، تبين أن هذه الاحتجاجات ليست مجرد ردود فعل عابرة ضد قرارات سياسية أو اقتصادية، بل هي مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بهوية النظام السياسي الأميركي والعلاقة المتدهورة بين الدولة والمواطن.
تستند هذه الاحتجاجات إلى شعور متزايد بالاستياء من الطبقات الوسطى والعمالية، الذين يشعرون أن النظام السياسي قد تنصل من التعاقد الاجتماعي الذي كان يشكل الأساس في العلاقة بين المواطن والدولة. فالطبقات التي لطالما كانت حجر الزاوية في المجتمع الأميركي تجد نفسها اليوم مهمشة، في وقت تزداد فيه الضغوط الاقتصادية بفعل سياسات اقتصادية لا تراعي الاحتياجات الاجتماعية. هذه السياسات، التي شملت تخفيضات في الدعم الاجتماعي ورفع الضرائب على الفئات الأقل دخلاً، جعلت من الواضح أن الدولة لم تعد تفي بوعودها الأساسية لتأمين رفاهية المواطن.
هذه الاحتجاجات تكشف عن أزمة أوسع في التعاقد الاجتماعي الأميركي، الذي طالما كان يعتمد على فكرة "الشراكة" بين المواطن والدولة. ومع تزايد التشوهات الاقتصادية والسياسية، بدأت شريحة واسعة من الأميركيين تشعر أن النظام الذي يعتقدون أنه يمثلهم قد أصبح مغتربًا عن واقعهم. هذا الاغتراب يتجسد في الطبقات الاجتماعية المتضررة من العولمة والخصخصة، تلك التي تجد نفسها غير ممثلة أو محمية من خلال السياسات التي تتبناها النخب الحاكمة.
إلى جانب هذه الأزمة الاقتصادية، تطرح الاحتجاجات تساؤلات فكرية عميقة حول هوية الولايات المتحدة نفسها. على مدار عقود، كانت الدولة الأميركية تحتفل بتنوعها، مستعرضةً نفسها كديمقراطية تتمتع بقدرة فريدة على احتضان الاختلافات الثقافية والإثنية. لكن في ظل الظروف الراهنة، أصبحت هذه الهوية الوطنية في خطر، حيث أصبحت الحواجز بين الداخل والخارج أكثر وضوحًا. يتساءل العديد من الأميركيين اليوم عما يعني أن تكون "أميركيًا" في عالم أصبح أكثر ترابطًا اقتصاديًا وأكثر تطورًا من الناحية التكنولوجية، في حين أن الدولة، بما لها من نفوذ في شؤون العالم، باتت تبتعد عن معاناة المواطن العادي.
في هذا السياق، تصبح الاحتجاجات الشعبية أكثر من مجرد رد فعل ضد القوانين والسياسات الحالية. إنها دعوة لإعادة التفكير في طبيعة النظام السياسي في أميركا، وما إذا كانت الدولة قد فشلت في الوفاء بمسؤولياتها تجاه مواطنيها. هذه الحركات تحمل في طياتها إمكانيات للتحول الفكري، حيث يمكن أن تكون نقطة انطلاق لإعادة تقييم العلاقة بين السلطة والمواطن، وبين الحكومة والشعب.
الاحتجاجات الأمريكية الحالية تشكل فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم، وربما حتى لإعادة تشكيل النظام السياسي الأميركي بشكل يتماشى مع تطورات العصر. يمكن لهذا الحراك أن يتحول إلى مشروع سياسي حقيقي، إذا نجح في تحويل مشاعر الغضب إلى رؤية شاملة وواضحة للمستقبل. لكن في الوقت نفسه، سيظل من الضروري أن تجد هذه الحركات قيادة موحدة وأجندة سياسية منسجمة لتحقيق نتائج ملموسة.
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى هذه الاحتجاجات على أنها مجرد فورة غضب عابرة، بل هي انعكاس لمرحلة تاريخية جديدة في الولايات المتحدة. مرحلة قد تحمل في طياتها الكثير من التحديات، لكنها أيضًا فرصة لتغيير بنيوي حقيقي في النظام الديمقراطي الأميركي، إذا تم التعامل معها بحذر وحكمة. الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كان هذا الحراك سيبقى مجرد لحظة عابرة أم سيصبح نقطة انطلاق لإصلاحات عميقة قد تغير وجه أميركا للأجيال القادمة.