سلمان النقاش
في الدول التي تتآكل فيها المؤسسات تحت وطأة النفوذ غير الرسمي، لا تكون المعضلة في غياب القوانين، بل في تغييب جوهرها الاجتماعي، تُدار الدولة من وراء ستارٍ سميكٍ من المصالح المتقاطعة، حيث لا يعلن عن السلطة، لكن صورتها تبدو في صور الممارسة، فتارة تكون القرارات رهينة توازنات غير معلنة، وتارة أخرى، يُختزل النظام القانوني برضا من هم في مقدمة القوى الفاعلة.
التقارير الدولية تؤكد ذلك دون أن تُشير إليه صراحة، فتقرير البنك الدولي لعام 2023 عن "فعالية الحكومة" منح العراق تقييما قدره – 1.34 على مقياس يتراوح من -2.5 إلى +2.5، وهو مؤشر لا يقيس فقط الأداء التنفيذي، بل يقيس عمق الدولة الظليلة، تلك التي تُحرك خيوط الحكم من خارج أطره، وحين يتحدث مشروع العدالة العالمية (WJP) عن ضعف فرض القانون وتسييس القضاء في العراق، فهو يرسم ملامح منظومة أصبحت السلطة فيها أقرب إلى صفقة مما هي إلى عقد اجتماعي.
حين يصبح من المألوف أن تتوقف الإجراءات القضائية عند مستويات معينة، لا لأن القانون عاجز، بل لأنه ممنوع من العبور آلاف من مذكرات الاستقدام والقبض، لكن لم يُلاحَظ أي تحرك فعلي تجاه ملفات حساسة تتعلق ملفات العقود النفطية الوسيطة، أو قضايا فساد في مؤسسات خدمية كبرى، في المقابل، نرى ملاحقة موظفين ميدانيين، تتعلق ملفاتهم غالبا بإجراءات إدارية أو مخالفات بلدية، والقانون هنا يتحرك وفق نظام تصفية حسابات ناعمة.
غياب المنهج المدني الحقيقي يفسح المجال لبروز قوى غير مرئية تتحكم بالمسارات من وراء المؤسسات، تُهندس ما يُقال وما يُنسى، وتُعيد ترتيب الوقائع على مقاس المصالح لا المبادئ، لا أحد يُمسك بها، لكنها تُمسك بالجميع، هذه القوى لا تتحدث في الإعلام، لكنها من تُحدد سقف الخطاب.
إن أكبر عدو للمدنية ليس الانفلات، بل التنظيم الموازي الذي يُدير الدولة من خلف الستار، ويُعيد تعريف "السيادة" خارج أروقة القانون، هذا ما يجعل القانون يبدو حاضرا في النصوص، لكنه غائب في الواقع، وما يجعل الدولة قائمة في الشكل، لكنها مفرغة من محتواها.
القانون، حين يُكتب، يبدو كأنه نزيه بطبعه، لكنه في التطبيق، يكشف عن طبيعته الحقيقية، لا بوصفه نصا، بل كأداة تُدار داخل بنية القوة.
في العراق، لا تغيب القوانين عن المؤسسات، لكنها كثيرا ما تغيب عن اللحظات التي تتطلب مساواة حقيقية.
خلال عام 2023، أصدرت هيئة النزاهة أكثر من عشرين ألف أمر استقدام واعتقال، تنوعت التهم فيها بين الإهمال الإداري، والتجاوز الوظيفي، والتلاعب في الإجراءات، الأرقام كبيرة، لكنها لا تقول كل شيء، إذ تُظهر مخرجات هذه المذكرات أن معظمها طالت موظفين في الدوائر الخدمية، وأقسام البلدية، والمكاتب الإدارية الوسطى، في المقابل، بقيت الملفات التي تمس مراكز القرار العليا معلّقة، أو خرجت من المشهد بهدوء، من دون توضيحات رسمية تُرضي الرأي العام.
الواقع لا يُقاس فقط بعدد القضايا المفتوحة، بل بمن تشملهم هذه القضايا ومن لا تشملهم، وهنا تظهر الفجوة.
تقرير مشروع العدالة العالمية لعام 2023 وضع العراق في المرتبة 154 من أصل 142 دولة ضمن مؤشر "سيادة القانون"، وهو ترتيب يُظهر هشاشة واضحة في قدرة الدولة على تطبيق قوانينها بعدالة، التقرير يشير إلى مشكلات كبيرة في "قيود السلطة الحكومية"، و"العدالة الجنائية"، و"العدالة المدنية"، وهي مؤشرات تؤكد وجود مساحات قانونية رمادية، تختلف فيها الاستجابة حسب هوية المتهم وموقعه من منظومة النفوذ.
وبينما يعيش العراق هذه الفجوة المتنامية، تبرز نماذج مضادة مثل إستونيا، التي احتلت المرتبة التاسعة عالميا في نفس المؤشر، هناك، لا تُذكر القوانين كجزء من الأدبيات الرسمية فقط، بل تُفعّل أمام الجميع، الفاعل القوي لا يُعفى، والمواطن البسيط لا يُستفرد به،
السلطة القضائية في إستونيا مستقلة بفعالية، لا بشكل، تطبيق القانون لا يتأثر بالاصطفافات، ولا يخضع لاعتبارات التوازنات الخفية.
المقارنة هنا لا تهدف إلى التبجيل، بل إلى الإشارة لهوة حقيقية، هوة يشعر بها المواطن في العراق حين يرى القانون يتحرك بسرعة أمام الخطأ الصغير، ويتباطأ أو يتوقف حين يصطدم باسمٍ كبير.
في دولة مثل إستونيا، يُنظر إلى القانون كضمان للانتماء، في العراق، صار كثير من الناس ينظرون إليه كمؤشر على موقعهم من الخارطة الخفية للنفوذ.
وعندما يفقد القانون حياده، تفقد المواطنة معناها بالتدريج، وحين يصير النص مجرد وسيلة، لا مبدأ، تتحول العدالة إلى فعل انتقائي، لا شعور مشترك.
العدالة والمواطنة
العدالة، حين تتأخر، لا تعود عدالة، إنها تتحول تدريجيا إلى شعور بالخذلان، يتسلل إلى وعي الناس، ويستقر هناك، ليصبح جزءا من يومهم العادي،في العراق، لم تعد المعضلة في معرفة ما إذا كان القانون موجودا، بل في يقين الناس بأنه قد لا يأتي حين يُطلب، أو يأتي متأخرا، بعد أن تتغير الوقائع، أو تُغلق الأبواب التي فتحتها الشكوى، في المحاكم، تتراكم القضايا، وفي الشوارع، تتراكم الحكايات، يروي الناس تجاربهم مع العدالة كما يروون الطقس: بحذر، وبنبرة لا تخلو من الإحباط، يُقال إن قضية فساد كبرى أُحيلت إلى التحقيق، لكن ما من أحد يعرف إلى أين وصلت، يُشاع عن اختلاسات، أو إساءات استخدام للسلطة، لكن المتورطين ما زالوا على رأس مناصبهم، يباشرون أعمالهم، يُحيّون في المؤتمرات، ويُصفق لهم.
في تقرير البنك الدولي لعام 2023 عن الحوكمة، صُنّف العراق ضمن الدول ذات الأداء المنخفض في "جودة المؤسسات" و"المساءلة العامة"، وهي مؤشرات تعكس ليس فقط قصورا إداريا، بل أزمة ثقة بين المواطن والدولة، العدالة لا تتحقق فقط بالنصوص، بل بثقة الناس بأن هذه النصوص ستُنَفّذ متى احتاجوها، وبأنهم لن يُنظر إليهم من خلال خلفياتهم أو مواقعهم، بل من خلال القضية نفسها.
هذه الثقة المتآكلة في العدالة تنعكس مباشرة على المواطنة، فحين يشعر المواطن أن القانون لا يحميه، أو لا يُنصفه، فإنه لا يعود يرى في الدولة مرجعية، يتحول الانتماء من علاقة قانونية متبادلة، إلى علاقة شكلية، يحكمها الإحباط أكثر مما يحكمها الدستور.
مؤشر الثقة بالمؤسسات الحكومية، كما ورد في تقارير الشفافية الدولية، يُظهر تراجعا مستمرا في العراق خلال السنوات الأخيرة، المواطن يثق بعشيرته أكثر من ثقته بالقضاء، وبالمعرفة الشخصية أكثر من ثقته بالإجراء الرسمي، وكل ذلك يُعيد تشكيل صورة الدولة بوصفها جهة بعيدة، لا تنظر إليه إلا حين يكون مطلوبا منها، لا حين يكون بحاجة إليها.
المواطنة، في جوهرها، ليست أوراقا رسمية أو بطاقات هوية، إنها شعور داخلي بأن للمرء مكانا متساويا أمام الدولة، دون زيادة أو نقصان، وحين تكون العدالة مؤجلة، تُؤجل معها هذه المواطنة، يصبح الانتماء مؤقتا، والثقة هشّة، واليقين بالقانون مُحاطا بالأسئلة.










