محمد العبيدي / المدى
أعادت وفاة المهندس العراقي بشير خالد داخل السجن، بعد تعرضه لضرب مبرح وثقته كاميرات المراقبة، فتح واحد من أكثر الملفات إيلامًا في البلاد، وهو ملف السجون التي باتت شاهدة على فصول من الإهمال والازدحام والعنف الممنهج، في ظل ضعف الرقابة وتراجع الاهتمام الحكومي بمصير الآلاف خلف القضبان.
ولقي الشاب المهندس بشير خالد مصرعه بعد تعرضه لضرب مبرح داخل أحد مراكز الشرطة في بغداد، عقب توقيفه على خلفية مشاجرة غامضة مع ضابط برتبة لواء.
وتحوّلت الحادثة إلى واحدة من أكثر القضايا التي هزت الرأي العام العراقي خلال الأيام الماضية، واستدعت فتح ثلاثة تحقيقات متوازية، برلمانية وحكومية، إلى جانب تحقيق محلي من قبل مجلس محافظة بغداد، في محاولة لكشف الملابسات ومحاسبة المقصرين.
كما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في العراق بالحادثة، حيث تداول مدونون وناشطون مقطع الفيديو الذي يوثق الاعتداء على بشير داخل الزنزانة، وسط موجة غضب واسعة تطالب بكشف حقيقة ما جرى ومحاسبة المتورطين في التعذيب والإهمال.
وفتحت الواقعة ملفات أوسع تتعلق بواقع السجون العراقية، وما تشهده من إهمال مزمن واكتظاظ خانق، فضلًا عن غياب الرقابة وضعف أداء العناصر الأمنية داخل أماكن الاحتجاز، في وقت تتكرر فيه مشاهد العنف والوفيات دون حلول جذرية.
إهمال طويل الأمد
بدورها، قالت عضو لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب، نيسان الزاير، إن "الإهمال وغياب التخطيط طويل الأمد وترك ملف السجون دون معالجة جذرية لسنوات طويلة، كلها عوامل ساهمت في تفاقم الأزمة داخل المؤسسات الإصلاحية في العراق، التي باتت تعاني اليوم من اكتظاظ خانق وظروف غير إنسانية".
وأوضحت الزاير في تصريح لـ(المدى)، أن "أغلب السجون الحالية قديمة ومتهالكة، تعود إلى حقب بعيدة تعود إلى سبعينات القرن الماضي، ولم تُصمم لاستيعاب هذا العدد الكبير من السجناء، الذي تخطى بحسب التقديرات حاجز الـ69 ألف نزيل، ما جعلها عاجزة عن تأمين بيئة احتجاز تليق بالمعايير المعتمدة".
وأضافت أن "وزارة العدل بدأت فعليًا بتنفيذ مشاريع لبناء سجون جديدة، مثل سجن النجف وسجن الإصلاح في الناصرية، لكن وتيرة الإنجاز بطيئة جدًا ولا تتناسب مع الضغط الكبير على السجون".
وبينما حاولت الجهات الرسمية احتواء الغضب عبر تشكيل لجان تحقيق، شكك كثيرون بجدوى تلك اللجان التي غالبًا ما تنتهي إلى توصيات شكلية دون محاسبة حقيقية، ما يعكس حالة فقدان الثقة الشعبية بمسارات العدالة داخل المؤسسات الأمنية.
وفي المقابل، تصاعدت المطالبات بإشراك منظمات حقوق الإنسان الدولية في مراقبة أوضاع السجون العراقية، بعد توالي التقارير التي تتحدث عن انتهاكات جسيمة، تراوح بين التعذيب الجسدي وسوء التغذية وتردي الرعاية الصحية، ما يضع الحكومة العراقية أمام اختبار حقيقي بشأن التزامها بالمعايير الدولية.
نقل التحقيقات للقضاء
بدوره، دعا المحامي عمار الشمري إلى إعادة النظر بآلية التحقيقات الأولية في القضايا الجنائية، مؤكدًا أن إسناد هذه المهمة إلى الجهات القضائية من شأنه أن يعزز مبدأ الحيادية ويمنح المتهمين ضمانات قانونية أكبر.
وقال الشمري لـ(المدى)، إن "نقل صلاحية التحقيق من الضباط إلى قضاة تحقيق متخصصين قد يسهم في تطوير المنظومة العدلية ويقلل من الأخطاء التي قد تقع أثناء مراحل جمع الأدلة أو تدوين الإفادات"، مضيفًا أن "هذه الخطوة لا تعني التقليل من دور الشرطة أو الطعن في أدائها، بل تأتي في إطار تكامل المؤسسات وتحقيق أعلى درجات العدالة، من خلال إشراك القضاء مبكرًا في مراحل التقصي والتحقيق، بما ينسجم مع الدستور ويعزز ثقة المواطن بالإجراءات القانونية".
وتعد قضية بشير خالد، حلقة من سلسلة طويلة من الحوادث المشابهة التي لم تحظَ بالتغطية ذاتها، ما يمثل فجوة كبيرة بين ما يُكشف للعلن وما يُمارس داخل الزنازين من انتهاكات تمر دون ضجيج، وفق نشطاء يرون أن كثيرًا من السجناء لا يملكون صوتًا يروي معاناتهم.
دعوات لمراجعة شاملة
من جهتها، أكدت الناشطة الحقوقية، أنوار الخفاجي، أن "العديد من السجناء يقضون سنوات طويلة دون أن تُحسم قضاياهم بسبب بطء الإجراءات، ما يزيد الضغط على المنظومة العقابية ويقلل من فرص الإصلاح"، مضيفة أن "البيئة الحالية داخل السجون أصبحت طاردة لأي محاولة لإعادة التأهيل أو التهيئة المجتمعية".
وأكدت الخفاجي لـ(المدى) أن "استمرار هذا الواقع سيُضعف من فرص إعادة دمج النزلاء بعد الإفراج عنهم، ما يتطلب مراجعة شاملة لسياسات الاحتجاز، والعمل على بناء سجون جديدة، وتحديث القديمة، فضلًا عن تفعيل البدائل القانونية مثل الإفراج المشروط والعقوبات غير السالبة للحرية".