إن جزءاً غير قليل من التجاوزات منذ ٢٠٠٣ على حقوق الفئات الأضعف يعزى لا إلى ضيق الأفق الثقافي والمعرفي فحسب، بل أيضا إلى تفاقم معدلات البطالة وتفشي الفقر وانهيار البنى القانونية للقضاء المستقل والنزيه ،الأمر الذي جعل نظام الحكم مترعا بالفساد وآليات الإفساد. وكان لقراري حل الجيش وفتح أبواب الاستيراد على مصراعيها عام ٢٠٠٣ ، واللذين اتخذهما بريمر، دور أساس في تزايد معدلات البطالة ليسهما مع المعدلات العالية للنمو السكاني برفد المعروض من قوة العمل بما لم يكن ممكنا استيعابه بيسر . وقد كرست هذا الواقع سلسلة قرارات اتخذها مجلس الوزراء الحالي بتأجيل العمل بقانون التعرفة الكمركية منذ ٢٠١٠ نتيجة ضغوطات وهيمنة اللوبي التجاري على مقاليد القرار الاقتصادي . ونتيجة استمرار الحكومة بسياسة بريمر في مناهضة الحماية الكمركية، فقد تفاقمت منافسة المنتجات الأجنبية ، الأمر الذي سبب إغلاق العديد من المصانع أبوابها . وأدى غزو السلع الزراعية الرخيصة إلى تحجيم النمو الزراعي. وقد قادت هذه القرارات مع بؤس أداء الاستثمار الحكومي ، الذي يعزى أغلبه للفساد بشتى مستويات اتخاذ القرارات الوزارية والتنفيذية ، إلى بقاء البطالة بنسبة ١٥ بالمئة رغم سياسات التوظيف الحكومي بلا عمل منتج ضمن أجهزة الدولة. ولا شك ، فإن المناخ غير المواتي للاستثمار الخاص من فساد ورشوة متفشيين ناهيك عن العراقيل الإدارية الكبيرة عند ترخيص الاستثمار كانت عوامل طاردة للمستثمرين العراقيين والأجانب معا ،مما أسهم بضعف مساهمة القطاع الخاص بخلق فرص العمل.
إن نسبة حالية للبطالة قدرها ١٥ بالمئة تشير إلى أن بطالة الشباب قد تقارب ربع إلى ثلث أعداد الفئة العمرية الشابة في قوة العمل ،وهذه النسبة ذات مدلول اجتماعي خطير يشير إلى استمرار أحد المحفزات الموضوعية للانخراط بأعمال العنف، ومنها أيضا عصابات الخطف والجريمة المنظمة. ويساهم بتفاقم هذه المشكلة كل من الفساد والرشوة اللذين يسّرا عمل عصابات الجريمة المنظمة والابتزاز اللذين اخترقا عمل الأجهزة الأمنية ليعطلا فاعليتها.
ويحفز بقاء المسببات الاقتصادية الأساسية للعنف من فقر وبطالة وتباين طبقي متزايد قبول الدعوات المتشنجة من قبل المتعصبين مذهبيا ودينيا وعرقيا . ومن هنا يمكن القول بأن بعض ما أصاب ويصيب أصحاب المذاهب الصغيرة من عنف وقسر، ناهيك عما أصاب مواطنين من مكونات اجتماعية أخرى ، ما زال يلقى آذانا صاغية لدى من يشعرون بالإحباط وبانسداد آفاق المستقبل .
هناك عقبات تواجه سياسات الإصلاح والتطوير وحلول مقترحة تكمن في حلول مشاكل العنف والتمييز الاجتماعي ليس فقط بما يؤكده البعض في إعادة نظر مطلوبة بمناهج التعليم، وأيضاً بالمقومات التمايزية والتمييزية في كتب التاريخ والثقافة، وفي السعي المطلوب لنشر ثقافة عصرية تقوم على احترام حقوق المواطنة وحقوق الإنسان بالتساوي ، بل أيضا في تعزيز المشروع الوطني العراقي على المستوى السياسي من جهة ،وبحل المشاكل الاقتصادية التي تواجه الشباب من الجهة الأخرى.
لابد من إيجاد حلول جدية لكشف حقائق الفساد الحكومي وآلياته السياسية المعتمدة على المحاصصة من خلال إسهام الصحافة ومنظمات المجتمع المدني. وسيكون ضروريا التركيز على ضرورة إلغاء نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي عزز نفوذ الفاسدين الذين حلوا محل الأكفاء من التكنوقراط في العديد من أجهزة اتخاذ القرار على مستوى الوزارات والمحافظات والهيئات التي كانت مستقلة و الأجهزة التشريعية والقضائية والتنفيذية العليا من ناحية أخرى . ولتحقيق نهضة اقتصادية حقيقية تمتص البطالة وترفع مستويات المعيشة بشكل فاعل ومتوازن ومستدام، سيصبح ضروريا تحجيم دور اقتصاد الفقاعة النفطية الذي كرسته سياسات الدولة في إلغاء المفاعيل الإيجابية لنظام الحماية الكمركية . ولا بد أيضا من السعي الجاد لإلغاء تبعات المحاصصة الطائفية والعرقية عند اقتسام المواقع الحكومية التي شجعت الفساد بقرارات الاستثمار كما ضخمت البطالة المقنعة بأجهزة الدولة. وفي هذا الشأن، يتسم تشجيع العسكرة في سياسات التوظيف والإنفاق الحكوميين بأهمية سلبية متفاقمة الآثار التشويهية على تطور البنى الاقتصادية والاجتماعية. لذا سيصبح ضروريا تشجيع واتباع سياسات فعالة للتنويع الاقتصادي لإبعاد المحور المركزي للنشاط الاقتصادي عن ذاك الذي ييسر لبعض السياسيين ميلهم لتأجيج النزاعات المسلحة. و سياسات التنويع الاقتصادي هذه ضرورية لتحسين مستويات المعيشة عبر توليد القيمة المضافة من الإنتاج السلعي والخدمي خارج قطاع الدولة وعسكرتها المتزايدة دون مبرر.
وسيستلزم النهوض الاقتصادي أيضا سياسات فاعلة لتحفيز الاستثمار الحقيقي ، مقارنة بمشاريع الإنفاق الحكومي الشكلي والتبذير في زمن حكومتي المالكي منذ أيار ٢٠٠٦ اللتين فشلتا بتحقيق إنجازات اقتصادية رغم تلقيهما قرابة ٤٠٠ مليار دولار من عوائد النفط، وهو مبلغ لم يتحقق لأية حكومة أخرى بفترة ست سنوات ونصف السنة مماثلة.
إن فاعلية السياسات المرجوة للنهوض الاقتصادي ومكافحة البطالة والفقر ستتطلب القيام
بإصلاحات سياسية أساسية تكافح الفساد ،إن لم تقضِ عليه، وتعيد للاستثمار الحكومي الحقيقي شأنه بعد أن تحول الإنفاق العام إلى أحد أهم مصادر استنزاف موارد الموازنة العامة. ولن تتحقق هذه الإصلاحات المنشودة طالما أفلحت الأحزاب المهيمنة في إبقاء النظام الانتخابي مصادراً لإرادة الناخبين في اختيار ممثليهم ،فقد أدت هذه المصادرة إلى استمرار سيطرة كبار متنفذيها على مجريات العملية السياسية بتوافقات تضمن استحواذ أساطينها على موارد مالية وعينية مخصصة ضمن الموازنات العامة. لقد اقتسمت هذه الأحزاب غنائمها من المال العام على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشعب الذي صاروا يرمون له فتات ثرواته النفطية. لذا، فان ظلت نفس القيود والهياكل السياسية الحالية ومحدداتها ، فلن يجني شعبنا من ثروته النفطية إلا مزيداً من ذلك الفساد الأسطوري كما وضح من مجريات صفقة السلاح مع روسيا ومساعي التغطية عليها .
لا شك فإن الإصلاح المنشود سيكون صعبا في ظل الفساد المستشري وفي ظل الجهل بالأساليب الحديثة في الإدارة والاقتصاد وأيضا في ظل الميل الواضح لأساطين الحكم لليّ ذراع القوانين والدستور عبر الهيمنة على الأجهزة القضائية والبنك المركزي وديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والهيئات المستقلة الأخرى. ومما سيعيق الإصلاح المنشود أيضا وجود مصالح قوية لا تشجع على نمو القطاعات الإنتاجية . وهذه المصالح قد قامت بتعزيز نفوذها في ظل سياسة الاستيراد المفتوح وهي تستمر بهذه السياسات معطلة قانون التعرفة الكمركية لعام ٢٠١٠ يشجعها في ذلك لجوء دولتنا الريعية إلى أسهل الحلول المتاحة ، ألا وهو الحل الكامن بسياستها التي كرست نمو هيمنة اقتصاد الفقاعة النفطية . وضمن اقتصادنا المختل وأحادي الجانب، تسعى الحكومة في برامجها الرسمية لإنتاج كميات متزايدة من النفط الخام ، والذي يعرف كل ذي عقل سليم انه متوجه يوما نحو النضوب !!!وسيقود نضوب النفط إلى تعريض اقتصادنا إلى أزمة كبيرة ما لم تسعَ الدولة سريعا، وبفاعلية، إلى ترشيد أدائها التبذيري عبر إعادة الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية،كالزراعة والصناعة التحويلية ،و بالحد من الفساد المحبط للتنمية.
إن نضوب الهيدروكربونات الذي سيأتي لا محالة سيخلق بدوره أزمة اقتصادية - اجتماعية جديدة . وفي تلك الأزمة، قد يتراءى لنا العنف الذي شهده مجتمعنا خلال العقد الأول من هذا القرن نزهة فات أوانها مقارنة بما نأمل ألا يتحقق ، وذلك إن لم تنجز الإصلاحات السياسية المطلوبة بشكل عاجل لتفعيل الاستثمار والتنمية . وذلك الإصلاح المنشود سيستلزم الحد من قدرات الأحزاب المتنفذة لتسخير النظامين الانتخابي والمالي في تعزيز سلطة قادتها للهيمنة عبر تعيين الأصحاب والأحباب والمحازبين المقربين نوابا عن الشعب !!! ولا شك فان إصلاح النظام المطلوب سيستلزم إنهاء نظام القوائم الانتخابية الذي جعل بعض النواب مماليك للمالكي والنجيفي والمطلك. وهؤلاء يبدو أنهم ، والأبناء والأقارب المعينين في مكتبي النجيفي والمالكي من مهماتهم تيسير المحسوبية . ولقد أمسى هؤلاء الإخوة الأعداء سابقا متحالفين لإقصاء النزيهين من التكنوقراط ولتحجيم تأثيرات الجريئين من النواب بغية التصرف بموارد البلاد دون ضوابط كافية. لذا، سينبغي السعي لتغيير هذه البنى الأسرية والعشائرية في تكوين النظام السياسي الذي استشرى فساده ، وهي البنى التي تبدو متوجهة الآن نحو التحالف لإقامة نظام اوليغارشي يعتمد آليات الإفساد والابتزاز. ولا بد للنظام البديل من الاستناد إلى الانتخاب المباشر للنواب ضمن مناطق انتخابية صغيرة. وضمن هذا النظام الأخير، سيكون ضروريا أن يمثل كل منطقة انتخابية نائب واحد لا غير لكي يكفل النظام الانتخابي تمثيل إرادة الشعب لا تمثيل إرادة زعماء صاروا ميالين للتحالف ضد الشعب ومثقفيه .
إن نظامنا الانتخابي الحالي الذي يفرز في واقع الحال عددا ضئيلا من النواب الذين يجتازون العتبة الانتخابية لا يمكن له أن يوفر تمثيلا ديمقراطياً حقيقياً لإرادة الناخبين رغم صعود عدد من النواب المتسمين بالحرص على المصالح العامة للبلاد. ومثل هذا النظام، إن لم يصلح باتجاه التمثيل المباشر لإرادة الناخبين عبر انتخاب نائب لكل منطقة انتخابية، سيؤدي في نهاية المطاف إلى بروز نظام آخر قيد التشكل تسوده طبقة أوليغارشية سياسية فاسدة يبدو أنها تتجه نحو التحالف المصلحي العابر للانقسامات الطائفية . وسيؤدي تعزيز هيمنة هذه الأوليغارشية الفاسدة إلى تفاقم التباين الطبقي والاجتماعي عبر تيسير عمليات الاستحواذ على أموال كبيرة من الموازنات العامة، التي تتوسع سنة بعد أخرى دون أثر تنموي ملموس . وسيتحقق ذلك من خلال تحالفات تكرس المحاصصة والفساد المتلازمتين مع نمو الميل للقمع وأجهزته في الدولة المعتمدة على ريع النفط لتمويل موازناتها المتعاقبة.
إن هاتين الآليتين، أي المحاصصة المتلازمة مع الفساد والإفساد، هما اللتان صارتا تكرسان النمو المشوّه لنظامنا السياسي ، كما يسّرتا أعمال العنف بعيدا عن الديمقراطية . إنهما للأسف الشديد، ورغم تحالفات الطبقة السياسية التي تتأزم بين الفينة والأخرى، تستخدمان في نهاية المطاف لإبقاء مجتمعنا مهمشاً في فاعلية تأثيراته الانتخابية كما تستخدمان لإبقاء اقتصادنا مشوهاً وتابعاً في أواخر مسيرة التطور الإنساني .