سعد محمد رحيمكان جان بول سارتر ( 1905ـ 1980) واحداً من أكثر المفكرين الغربيين، في حقبة الحرب الباردة، التباساً وإثارة للجدل في علاقته بالماركسية، وبالتجارب الاشتراكية. وقد اتخذ موقفاً نقدياً صارماً من النظرية الماركسية ومنهجها الجدلي وتطبيقاتها. لكنه عدَّ نفسه، دوماً، يسارياً، في الخانة عينها التي وضع فيها اليساريون أنفسهم، في مواجهة النظام الرأسمالي بجشعه واستغلاله ولا عدالته ووجهه الاستعماري. ولذا كانت علاقته متذبذبة بالحزب الشيوعي الفرنسي، وبالدولة الكبرى الراعية، في حينها، للحركات الماركسية والثورية في العالم: الاتحاد السوفيتي. وفي هذا الصدد كتب دراسات وأبحاثاً ومقالات عديدة جمعها في كتب شتى، لعلّ أهمها: (نقد العقل الديالكتيكي) و (المادية والثورة) و (قضايا الماركسية) و (شبح ستالين).
تحدث سارتر عن الطبيعة الخسيسة للنظام الرأسمالي، وعن خبث الطبقة البرجوازية وفسادها، حيث أنتجتا الفاشية وأهوالها. وطوال حقبة الحرب الباردة، وحتى وفاته، بقي يسارياً، مناوئاً للولايات المتحدة وسياساتها، ودورها في الحروب الإمبريالية، لاسيما في كوريا وفيتنام. والبديل المرغوب فيه، من وجهة نظره، هو شكل ما من أشكال الاشتراكية. وكان مقتنعاً بأن الاشتراكية، لا غيرها، هي التي بإمكانها خلق مجتمع حر، أصيل. وجوهر رؤيته الاشتراكية يتمثل في تأكيده أنْ لا وجود لمجتمع حر "ما لم يستمتع كل عضو فيه بنفس درجة الحرية". وكان تصوّره عن كيفية تحقيق الاشتراكية، وطبيعتها هو أنه "لا يمكن للاشتراكية أن تظهر إلاّ على يد الطبقة العاملة، ولا يمكن لها أن تنجز شيئاً ما لم تُعط الأولوية المطلقة لحاجات هذه الطبقة". وظل على الرغم من انتقاده للاتحاد السوفياتي، والفظائع التي اُرتكبت فيه، لاسيما في عهد ستالين، يرى تفوقاً أخلاقياً للمنظومة الاشتراكية على الديمقراطية البرجوازية. غير أن تقلبات الأحداث منذ الاحتلال الألماني لفرنسا (1941)، ووقوف الحزب الشيوعي الفرنسي إلى جانب معاهدة عدم الاعتداء الموقعة، في عام 1939 بين الاتحاد السوفياتي (ستالين) وألمانيا النازية (هتلر). واعتبار إعلان الحرب من قبل فرنسا وإنكلترا على ألمانيا إثر احتلال الأخيرة بولندا مؤامرة إمبريالية، ثم انقلاب موقف الحزب مع غزو ألمانيا أراضي الاتحاد السوفياتي في يونيو 1941، ليصبح الحزب في صف المقاومة ضد العدو النازي (المشترك).. نقول؛ مع تقلبات الأحداث هذه ازدادت انتقادات سارتر للشيوعيين والاتحاد السوفياتي حتى وصلت، أحياناً، حد القطيعة. ومع احتلال الاتحاد السوفياتي أوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب وبدء الحرب الباردة ما عاد، في نظر سارتر، كما في السابق "أن من يدعم الشيوعية فإنه يدعم أسباب الحرية".خصص سارتر، في عام 1950، عدداً من مجلته (الأزمنة الحديثة) التي كان يرأس تحريرها لفضح وجود معسكر للعمال العبيد في الاتحاد السوفياتي. لكنه بقي إلى جانب فكرة الاشتراكية، وضرورة تحرير الطبقة العاملة. وكتب في عام 1952 مقالته الشهيرة ( الشيوعيون والسلام )، وفيه تعاطف مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ورأى "أن الطبقة العاملة حققت وعياً بذاتها كطبقة من خلال الحزب الشيوعي وحده".تغير الأمر لمّا قام الاتحاد السوفياتي بغزو المجر وقمع حركة الاستقلال فيها، في عام 1956، وكتب مقالته الشهيرة (شبح ستالين) وفيها دان التدخل السوفياتي، وعدّها فساداً من فعل الستالينية، لكنه لم يتخل عن إيمانه بالماركسية "التي ظلت في نظره الفلسفة الوحيدة القابلة للتطبيق في القرن العشرين". وقبل ذلك كانت الستالينية، في نظره، ضرورة تاريخية لبناء الاشتراكية. ولم يسع إلى تخطئة الماركسية في ضوء إخفاقات التجربة أو طبيعتها القمعية، اللاديمقراطية. وأراد للحزب الشيوعي أن يتبنى خططاً فيها قدر من الليبرالية والإصلاح. وذهب إلى أن الوجودية قادرة على تقديم العون للماركسية، فبالتفاتها إلى التجربة المباشرة تستطيع أن تنقذ الماركسية من أن تصبح جافة، متيبسة، ولاهوتاً مجرداً. وقد قال؛ "لا يمكن للوجودية أن تحل محل الماركسية. فالماركسية ــ والماركسية وحدها هي الفلسفة الصحيحة في العالم الحديث". أما ما تستطيع أن تقدمه الوجودية من عون فهو أن "تساعد الماركسية بوصفها الفلسفة التي تمكن البروليتاريا من إنجاز الوعي الذاتي والأصالة".اكتست رؤية سارتر إلى مستقبل الجنس البشري بمسحة من التشاؤم. فوجوديته لم تكن لتتلاءم، من هذه الناحية، مع التفاؤل المسطح للماركسية التقليدية السائدة. وقد أظهر، مثل آخرين من مجايليه (ألبير كامو مثلاً)، في كتاباته المختلفة تناقضاً بين "الفلسفة الاجتماعية للنشاط السياسي واليأس الميتافيزيقي العميق". ولعله غدا أكثر تشاؤمية وعدمية مع سحق قوات حلف وارشو، بقيادة الاتحاد السوفياتي، لنسخة الاشتراكية التي أقامها ألكسندر دوبك في تشيكوسلوفاكيا في عام 1968. وكان رد فعل سارتر ضد عملية السحق تلك عنيفاً ومباشراً. وفي الوقت نفسه فشلت ثورة الطلاب في فرنسا (مايو 1968 ).. هذه الهزائم "تركت سارتر في يأس من مستقبل السياسة في أوروبا فراح يشغل نفسه أكثر منذ الستينيات فصاعداً بصراع عالم المستعمرات ضد سادتهم الإمبرياليين". ومنذ انطلقت شرارة الثورة الجزائرية عمل سارتر على دعم تلك الثورة، وتفنيد أسطورة أن الجزائر فرنسية.في مقالته الشهيرة (المادية والثورة) أو (الماركسية والثورة) يطرح مجموعة من الأسئلة والأفكار بخصوص الفكر الماركسي والحركات الماركسية. وكان سؤاله الأول، هنا، هو؛ "هل المادية وأسطورة الموضوعية لازمان فعلاً لقضية الثورة، وهل لا يوجد انفصال بين عمل الثوري وإي
ســارتر والماركســية
نشر في: 20 فبراير, 2011: 05:04 م