TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ( 50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

( 50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

نشر في: 16 إبريل, 2025: 12:03 ص

زهير الجزائري

 

( 3)

من نافذة الصف تمتد أمامي نازلة بساتين الحمضيات. أحاول أن أهدئ نفسي بخضرتها المتعافية و بزرقة البحر الممتد إلى اللانهاية. أسمع جرس الاستراحة وأقول لنفسي: مستحيل! لا البحر ولا بساتين الحمضيات ولا عرائش الكروم في الدامور استطاعت أن تثبت حضورها في ذهن هؤلاء الأطفال.. فقد ألغت ذكريات المذبحة التي خرجوا منها تواً كل شيء عداها.

لكنهم يلغون فرضيتي بلحظتهم الراهنة. فبعد أن فرغوا من رسم تفاصيل المجزرة، انتشروا تحت الشمس، في ساحة المدرسة، مندمجين، كما في كل مدارس العالم السوية، بتلك الحركة النشيطة الصاخبة بعد ضغط الدرس: صبيان مشاكسون يجرون ضفائر الطالبات، وطفلة تحجل على قدم واحدة عابرة الخطوط البيض، يتقاذفون كرتهم في مواجهة الشمس، او يتحشدون أمام كامرتي مادين ألسنتهم ساخرين من فرضيتي. المدير قال: جئت متأخرا والطفل محمد المنشاوي الذي رأی مقتل والده وأمه ردني :
-يعني عايش. شو، أظلني طول عمري أبكي؟!
لقد تجاوزوا التفاصيل الموجعة لكي يندمجوا مع حيل الحياة الأكثر تساوقا مع طفولتهم. تكيفوا مع الهدنة، لكنهم لم يفقدوا الخوف والحذر. فوراء مشهد الأشياء السوي الهادئ هناك لحظة تكمن فيها فواجع ما رأوه، وستعود الصور بتفاصيلها الموجعة. لهذه اللحظة القادمة أحبوا السلاح والتدريب العسكري.
بعد سنوات عدت لهذا المكان مع صديقي الروائي الراحل (غالب هلسا). فقد وجد غالب في شخصية المقاتلة (أمال أبو علي)، بطلة رواية لن يمهله الموت لكتابتها. معه كنت أحاول أن أتلمس ثمالة الماضي بعد أربع سنوات من تلك المجزرة: الطالبة (فريال قشاعدي) التي قتلت أمها وأبوها في تل الزعتر لم تستطع الحياة بذاكرة اليتيمة، لذلك تقبلت وضعها الجديد وقفزت عقداً فوق عمرها لتصبح المعيلة الوحيدة لأخوتها الصغار. تذهب لشباك المساعدات وتجيب على الأسئلة الإدارية، وتأخذ عنهم مخصصات الإغاثة وعائلات الشهداء. لقد أصبحت أمًّا وهي لم تبلغ عامها الخامس عشر. بعض الشابات تزوجن و خلفن أطفالاً، وهناك مقاتلون نجوا من تلك المجزرة واعتقدوا أنهم لن يموتوا أبدا بعد معجزة الحياة، مثل الملازم (محمد شحادة)، لكنهم قتلوا في المجازر التالية. الأطفال الذين رسموا تلك الأهوال على الورق، رسموا على الأرض حياتهم فأصبحوا الجيل الثالث من المقاتلين الفلسطينيين.
بيروت،بيروت
21/12/1976
أنا و(نازك الأعرجي) تجولنا في شارع المزرعة باتجاه الكورنيش بعد أن بعثنا برقيات الى العراق،حزينين لأننا لم نشارك هؤلاء الناس في أيام محنتهم. كان حزن نازك أكثر لأنها تركتهم قبل بداية الأحداث وتعود الآن اليهم خجولة غير قادرة على التواصل. لا تعرف كيف تبرّر موقفها. خلال تجوالنا اخترقنا أكثر من عشر نقاط تفتيش وفي جيوبنا جوازات سفر عراقية. كلما اقتربنا من حاجز صمتنا أو تحدثنا باللغة اللبنانية. الجنود السوريون يحدقون بنا بنظرات باردة. ترى بماذا يفكرون الآن؟ تساءلنا أنا ونازك. لقد قاتلوا الفلسطينيين واللبنانيين، أما يجعلهم هذا يتساءلون؟ قيل لي أن هناك حالة تململ وتنقلات دائمة في صفوفهم. الناس يتعاملون معهم كغزاة ثقلاء الدم. وهم بحاجة الى الغرور المصطنع لكي يتوازنوا مع هذا الموقع المهين. خلال تجوالنا تكدست عدة سكاوتات ودارات على نفسها وعملت قاطعاً في حركة مفاجئة ومتوترة لا نعرف سببها. من حسن الحظ أن القاطع تكون وراءنا بأمتار. لو أنه كان أمامنا لما استطعنا الافلات منه.
ما أكثر المصادفات في الحرب. سكنت في شقة صحفي فلسطيني يسكن فوق حاجز ردع سعودي. الضابط السعودي يسكن في العمارة نفسها. الحاجز اعتبر العمارة ظهيراً أميناً لأن سكانها من (عليّة القوم). ويتعامل أعضاء الحاجز مع صديقي باحترام زائد. في هذه الشقة جو كتابة مناسب، كنا نشرب النبيذ وتحتنا مدرعات السعوديين، في داخلها جنود متوترون، أجسامهم مائلة لليسار لكي تراقب المخيم الذي لا يعرفون متى تأتيهم منه قذيفة. وجودنا في الشرفة فوقهم لا يشغل اهتمامهم لأن خوفهم يأتي من الطريق العام الذي يذهب الى المخيم. في هذه الشرفة سمعت عزفاً على البيانو لموزارت يأتينا من لامكان. فززنا من هذا الصوت الغريب. من الذي يعزف!؟ وما كلمة السر؟ شربنا (كسارا روزيه) من دون أن تقلق ليلتنا رماية. نحن في حماية قوات الردع. أمدّ رأسي من الشرفة فأراهم يدخنون ويتحدثون طوال الليل مع بعضهم في بوح مبحوح تغذيه أجواء الحرب. قصص عاطفية أو مشاكل عائلية لا تخص ما يحدث هنا، وكان الراديو بين أيديهم يذيع أغنية متوجعة لأم كلثوم.

وسط البلد
26/12/1976
ذهبت الى منطقة الفنادق. التحرك في هذه المنطقة صعب ومحصور بين الكتائب والسوريين. زرت هذه المنطقة قبل الحرب مرات ومرات مذهولاً من حميّة النشاط وحركة الصيرفة والتجارة. الآن تبدو لي مثل أطلال هائلة. العمارات تحولت الى أعمدة من الفحم، والاسواق أصبحت مثل جوف المناجم. تداولتها النار واستغل اللصوص أجواء الحرب والحرائق لينهبوا ما فيها. صعدنا الى غرف (الهوليدي إن) فبدا المنظر كريهاً لا يطاق.. خط طويل من الفحم تصعد منه رائحة ثقيلة، خليط من تفسخ الجثث والمطاط المحترق. فقط تلك الشجرة التي كانت تتوسط الساحة بقيت في مكانها كأنها موضع اتفاق وركون للمحاربين من كلا الطرفين. هذه المدينة التي كانت تستقبل رجال الأعمال والجواسيس والسواح في جو أنيق وهادئ، استحالت الآن الى عمود طويل اسود يطل على البحر الذي رأى كل شيء وبقي صامتاً. في غرف هذا الفندق حدثت أعنف المعارك في التاريخ. قتال من طابق لطابق ومن غرفة لغرفة. المتاريس كانت تقام في ممراته وتفتح في جدران العمارات انفاق طويلة بالصواريخ. ومن نافذة لنافذة مقابلة يتبادل المقاتلون الشتائم ورؤوسهم غاطسة خلف أكياس الرمل للاحتماء من رصاص القناصة. ومع الشتائم تراشق المقاتلون الصواريخ وقذائف الهاون من مسافة لاتزيد على مائة متر. فجأة تجد العمارة التي تقاتل منها تنهد بكاملها، تنتحر مرّة واحدة من وطأة ما تلقت. في حمامات هذا الفندق الفارهة وفي اسرته الفارهة استحم المقاتلون وناموا مع مدافعهم وقنابلهم اليدوية. وقد حدثوني عن المقاتل الذي كان قد أعد لنفسه حماماً من العطور يستحم فيه كلما عاد من عملية اقتحام. في بيوت العديد من المقاتلين وجدت تحفاً وتذكارات من هذه الفنادق الفخمة.
***
الليلة رأس السنة. بحذر يتحرك الناس للاحتفال. اشتروا حاجاتهم ووضعت بعض المحلات الزينة. كأن هناك دعاء غير مسموع بأن يكون العام الجديد عام سلام. في العام الماضي احتفل المتحاربون باختطافات متبادلة و قتل على الهوية عبر خطوط التماس. الفرح بقي مؤجلا طوال سنوات الحرب. سهرنا في سطح بيت لبناني قديم مع حشد من الفنانين اللبنانيين بينهم زياد رحباني وجان شمعون وفرقة الميادين. ذهبت برفقةً الفنان التشكيلي اللبناني أميل منعم والشاعر الكردي السوري سليم بركات. السهرةً بلا ضوابط. يدخل الناس من دون أن يستقبلهم أحد ويغادرون بلا وداع. من السطح نشاهد نجيمات متتالية فوق الجبل. اشتباك أم احتفال؟ لا أحد يسأل. دندنات عود وهناك من يسلّك صوته ليغني وما من مستمع. أغلب الحاضرين من اليسار بمختلف تياراته. لم تكن الحرب الأهلية هي الموت وحده. الحياة اليومية المشحونة بالتوترات كانت موضوعاً حفز مخيلة الفنانين والكتّاب للتعبير. هناك برنامج إذاعي يومي يعده زياد رحباني وجان شمعون "بعدنا طيبين قول اللّه" يبث من (إذاعة لبنان) التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي اللبناني. سمعت بضع حلقات منها وعجبت كيف تنمو النكتة المرّة في أجواء الحرب. السخرية وباللهجة الدارجة هي السائدة في الحلقات. سخرية من العرب ( سوريا بتبعثلك ردع ومصر بتبعث فلافل) وسخرية من زعامات الحرب وسخرية من لبنان نفسه وهو يذبح نفسه على الهوية. عرفت إن القتال بين الطرفين يتوقف خلال بث البرنامج. وعجبت كيف يستمر المقاتل خلف المتراس في القتال بعد أن يسمع حكمة المواطن اللبناني المسالم! كيف يتجاوز الحكمةً ويضغط ثانية على الزناد؟ في قاعة جامعية أخذني الكاتب (نزار مروة) لنشاهد مسرحية زياد ( وبكرا شو ؟ ) مسرحية من فصل واحد وشخص واحد مستعبد من ثري لبناني. هذا المخدوع يبدأ بالإشادة بكرم واخلاق سيده وهو مقتنع وفخور بانه يبدد حياته في خدمته. من خلال البوح والاسترجاع يصل إلى النقيض. زياد وحده يكتب الحلقات الإذاعية اليومية (بعدنا طيبين)، وله كلمة يومية في جريدة (النداء) التابعة للحزب الشيوعي اللبناني ويكتب ويخرج مسرحية. سليم بركات يكتب يوميات في مجلة (فلسطين الثورة) عن حياته اليومية بين المواقع، أميل منعم يرسم سكيتشات عن الحياة اليومية. المغنون يؤلفون ويلحنون. السينمائيون الوثائقيون مع كاميراتهم يحاولون تسجيل اللحظات التاريخية. الحرب عكس أيام السلم حبلى،َفي أحشائها سنوات من التغيرات والتجارب. للذين عاشوها تقدم مواضيع وأحداث موحية. الفواجع التي ترافقها تنتزع الفنان والكاتب من غيبوبته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

البْصَرة عراقيَّة.. لا عَلويَّة ولا عثمانيَّة

العمود الثامن: الجلوس على أنفاس المواطن

روما على مفترق طرق – هل تكتب الجولة الثانية نهاية أزمة أم بداية تصعيد؟

قناطر: المُوحِشُ المُسْتفرَد بين السعفِ والقبّرات

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

 علي حسين منذ سنوات وأنا أقرأ كلّ ما يقع بين يدي من كتب عن البلاد العجيبة اليابان، وأدهشني الأدب الياباني من كواباتا مروراً بكنزابورو أوي وميشيما، وانتهاءً بأشيغورا وموراكامي . شعب يكتب بحروف...
علي حسين

قناديل: مائدة طعامك التي تقرأ مستقبل العالم

 لطفية الدليمي علّمتْنا تجاربُ كثيرة في الحياة أنّ الأمثلة الشاخصة أكثر تأثيراً في مفاعيلها من المقولات المجرّدة. كلّما نظرتُ في مصدر الطعام الموضوع على مائدتي غمرَني إحساسٌ بأنّ هذا الطعام يمكنُ أن يكون...
لطفية الدليمي

قناطر: هل الثقافة مكملات غذائية ؟

طالب عبد العزيز في العودة الى قضية الجوائز الأدبية بالعراق والوطن العربي نجد أنّها لم تتبلور في قيمتها على المستوى الشعبي، فلا يُشار لأصحابها بالأهمية، ولا نجد لها دوراً في صنع الثقافة، على خلاف...
طالب عبد العزيز

العدالة الدولية تحت المطرقة

حسن الجنابي (الجزء- 3) كان الأمريكان والدول الغربية في غاية الرضا عن الدور الذي كانت تؤديه محكمة الجنايات الدولية (ICC). فقد نشطت المحكمة في ملاحقة بعض الجرائم الدولية، ومنها جرائم بعض القادة الصرب في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram