بغداد – تبارك عبد المجيد
يقف أحمد أمام صيدلية صغيرة في حي شعبي ببغداد، يحمل بين يديه وصفة طبية قديمة بحث عنها طويلاً. كان يعاني من مشكلة صحية تتطلب دواءً محدداً لا غنى عنه. لكن، مثلما حدث في مرات عديدة سابقة، اكتشف أن الدواء المطلوب غير موجود على رفوف الصيدلية.
"آسف، الدواء غير متوفر حالياً، حاول زيارة صيدلية أخرى"، قال الصيدلي، وهو يعتذر بلطف. لكن أحمد لم يكن بحاجة إلى مزيد من الاعتذار، فقد سمع الجواب ذاته مراراً في الأيام الماضية.
مع كل خطوة كان يخطوها في شوارع بغداد المزدحمة، كان يردد في ذهنه نفس الأسئلة التي كانت تلاحقه: لماذا لا تتوفر الأدوية الأساسية؟ ولماذا يختفي دواء بعد آخر؟ هل المشكلة في الشركات الموردة، أم في الحكومة، أم أن هناك شيئًا آخر يخفى عن الجميع؟ في أحد الأيام، وبعد بحث طويل، عثر على دواء آخر من شركة مختلفة. كان الدواء أقل كفاءة، لكن لم يكن أمامه خيار آخر. وعندما بدأ أحمد في استخدامه، شعر بشيء من التحسن، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن الأمر لا يتعلق فقط بالدواء. فمستقبل الأدوية في العراق لا يزال غامضاً، كما كان حاله في ذلك اليوم الذي لم يجد فيه العلاج الذي يحتاجه.
وفي ذات الوقت، كانت وزارة الصحة قد أطلقت تطبيق "كوديا"، وهو خطوة جديدة لتتبع الأدوية ومحاربة الغش. لكن أحمد، كغيره من المواطنين، لم يلمس بعد تغييرًا ملموسًا على أرض الواقع. ما تزال المشاكل قائمة، وتظل الأدوية الأساسية مفقودة، مما يترك المواطنين في مواجهة مع معركة مستمرة من أجل الحصول على ما يحتاجونه للبقاء بصحة جيدة.
تواصل مراسل (المدى) مع نقابة الصيادلة للوقوف على أسباب اختفاء بعض الأدوية من الأسواق المحلية، حيث أوضح المتحدث باسم النقابة، أسامة هادي حميد، أن غياب بعض الأصناف الدوائية يعود إلى جملة من الأسباب، من بينها توقف الشركات المصنعة عن إنتاجها، أو عدم ملاءمة أسعارها للمستهلك العراقي، إضافة إلى ظهور بدائل أكثر فاعلية في الأسواق.
وأضاف حميد أن هناك بعض الأدوية التي يتم سحبها من السوق بعد ظهور آثار جانبية لها تكتشف بعد الاستخدام، مشيرا إلى أن نقابة الصيادلة تُعد شريكا أساسيا في تحقيق الأمن الدوائي في البلاد، وتعمل عبر فرقها التفتيشية على مراقبة مدى التزام الصيدليات بالقوانين والتعليمات، مع التأكيد على منع تداول الأدوية غير المسجلة أو المهربة.
لا يبتعد الواقع الصحي في العراق كثيرا عن بقية القطاعات الخدمية التي تعاني من الفساد والاحتكار، وفقًا لما أكده المحلل السياسي علي البيدر، الذي أشار إلى أن جهات نافذة تفرض سيطرتها على القطاع الصحي، ما يؤدي إلى تراجع واضح في مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.
وأوضح البيدر لـ(المدى)، أن "بعض الأطراف تستحوذ على إمكانيات الدولة وتوظفها لخدمة مصالحها الخاصة، بل وتذهب أحياناً إلى حد عرقلة تنفيذ مشاريع صحية ضرورية، الأمر الذي تسبب في فقدان المواطن للثقة بالمؤسسات الصحية الحكومية، ودفعه إلى اللجوء نحو القطاع الخاص أو حتى القلق من التعرض لأي وعكة صحية في ظل الواقع المتردي".
ورغم إشادته ببعض المحاولات الحكومية لتطوير المستشفيات وتحسين الأداء، إلا أن البيدر يرى أن الإجراءات المتخذة لا ترقى إلى مستوى التحديات التي يواجهها هذا القطاع، مؤكدًا أن المؤسسة الصحية بحاجة إلى إصلاح داخلي عميق يعالج أزماتها الهيكلية، وهو ما لم يحدث حتى الآن. ولفت إلى أن "هناك مستشفيات جيدة من حيث الإمكانات والبنية التحتية، إلا أن التدخلات السياسية والمحسوبية في تعيين إداراتها ساهمت في تدهور أدائها، مشددا على أن حجم الإنفاق الحكومي الضخم على الصحة لا ينعكس فعليا على مستوى الخدمات، بسبب سوء الإدارة وغياب الرقابة الجادة".
يتواجد الدواء بكثافة في الأسواق المحلية، ويتنوع بين مناشئ وماركات متعددة، إلا أن التعامل معه لا يجب أن يُقارب بعقلية المستهلك الذي يشتري حاجيات يومية من متجر. فهذه المواد الكيميائية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصحة الإنسان وحياته، تتطلب تعاملاً مهنياً قائماً على التشخيص الدقيق والوصف الطبي المسؤول. من الطبيعي، بل من الضروري، أن تُصرف هذه الأدوية بموجب وصفات طبية من مختصين، وتُسلَّم من خلال صيدليات مرخصة تخضع للرقابة، كما هو الحال في معظم دول العالم.
لكن الواقع في العراق يبدو مغايراً تماماً لهذا السياق العلمي. إذ يشير الصيدلي محمد الساعدي، في حديثه لـ(المدى)، إلى أن العراق يُعد من بين أكثر الدول تساهلاً في مسألة صرف الأدوية من دون وصفات طبية. فبإمكان أي شخص أن يتوجه إلى الصيدلية ويشتري ما يحتاجه من أدوية، حتى تلك التي يُفترض أن تُصرف فقط بوصفة رسمية في بلدان أخرى.
وإن كانت سهولة الحصول على الدواء تبدو للوهلة الأولى مؤشراً إيجابياً، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في مكان آخر: الكلفة. فالكثير من الأدوية، لا سيما تلك المخصصة لعلاج أمراض مزمنة كالقلب والسكري وارتفاع ضغط الدم، تُعرض بأسعار تفوق قدرة الكثيرين، مما يضع المرضى أمام خيار صعب بين الاستمرار في العلاج أو تحمل أعباء مالية تثقل كاهلهم. ورغم ذلك غالباً ما تتوفر بدائل دوائية أرخص ثمناً، قادرة على تقديم فاعلية علاجية مقاربة، مما يساعد المرضى على مواصلة علاجهم دون التعرّض لضغوط مالية خانقة. لكن المشكلة لا تتوقف عند الأسعار. فبحسب الساعدي، "نشهد حالة من الفوضى في السوق الدوائية، حيث تعج الصيدليات والمجمعات الطبية بالأدوية المختلفة، بينما يشتكي المواطنون من اختفاء أدوية ضرورية أو ارتفاع أسعارها بشكل مبالغ فيه". ويؤكد أن "هذا الواقع يفرض على الجهات الحكومية مسؤولية كبرى في التدخل الفاعل، سواء من خلال تنظيم عملية بيع الأدوية، أو ضبط المجمعات الطبية لضمان توفر الأدوية الأصلية والآمنة للمواطنين".
ويزداد المشهد تعقيداً حين يتعلق الأمر بنقص الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، مثل أدوية القلب، والصرع، وأدوية السرطان، وحتى العلاجات المخصصة للأطفال كالتي تعالج الالتهاب الرئوي أو الإنفلونزا. وفي هذا السياق، يلفت الساعدي الانتباه إلى اختفاء دواء "الفنستيل"، المستخدم لعلاج الرشح والحساسية عند الأطفال، حيث غاب عن رفوف الصيدليات لأشهر قبل أن يعاد طرحه مؤخراً. ويوضح الساعدي أن سحب الأدوية من السوق ليس أمراً نادراً، بل يحدث بشكل روتيني نتيجة ظهور مضاعفات جانبية أو بسبب سوء الاستخدام، مشيراً إلى أن أدوية القلب والمفاصل هي الأكثر عرضة للسحب أو التوقف المؤقت عن بيعها.
وتبرز هنا أزمة إضافية، وهي القلق المتزايد لدى المرضى حيال غياب الأدوية، وما إذا كانت البدائل المطروحة قادرة على تقديم نفس الفعالية. ويضيف الساعدي بحسرة: "نوضع أحياناً في مواقف محرجة، عندما يعجز الصيدلي عن تقديم إجابات واضحة للمرضى الذين يسألون عن أسباب اختفاء دواء اعتادوا عليه، أو مدى جدوى البديل المعروض، في وقت يعتمد فيه الكثير منهم على هذه الأدوية للبقاء على قيد الحياة".