TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > (50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

نشر في: 17 إبريل, 2025: 12:11 ص

زهير الجزائري

(4)

في حياتي غطيّت تسع حروب في الشرق الأوسط وأفريقيا. كلمة (غطيت) تبدو باهتة إزاء ما عشته هناك وما بقي من ذاكرتي عنها، لأن التغطية الصحفية تتطلب تنحية المشاعر والتركيز على الخلفيات والنتائج السياسية للحرب. الحروب قصرت أم طالت تحفر عميقاً في داخلي وتتسلل الى أحلامي في شكل كابوس لازمني: مدن بلا أنهار وبيوت بلا أبواب وشبابيك، مجرد أطلال. أسقط فيها بغتة ولا أعرف كيف أخرج. أعرف ماضي هذه المدن المهدمة، لكن لا أعرف اسمها ولا طرقها. تائه فيها وفي الزمن. أصكّ أسناني ثم استيقظ مبللاً بالعرق دون أن أجد بيت الأمان.

في بيروت، بين الهدنة والحرب، كنت أعيش ثلاث حروب. واحدة أنا فيها، دما ولحماً وكة أعصاباً، وهي الحرب الأهلية اللبنانية، وثانية كان لي فيها شقيقان، هي الحرب العراقية- الإيرانية. وبينها أم تنام على الأرض وتتابع مع آخر الأخبار جبهتين. مع الإثنتين حرب كلفت بان اكتب عنها وهي حرب البوليساريو في الصحراء الجزائرية المغاربية.
في لبنان كنا نتوقع الحرب بعد هدنة قصيرة خادعة. نتوقعها لأن لبنان منقسم بالمتاريس والفكرة. كلا الطرفين يدرك ان الاستمرار بهذا الوضع مستحيل. القادة التقليديون المارونيون يشعرون أن التعايش مع الطرف الآخر، وهو خليط من ناصريين وإسلاميين ويساريين، ومعهم (دخلاء) فلسطينيون، صار مستحيلا.
اتسعت الفجوة بين الطرفين حين بدأ حكم الأبناء بشير الجميل، داني شمعون، وطوني فرنجية الذين تكونت مُثُلَهمْ في أجواء القتال والمجازر المتبادلة. تحدد هدفهم، وهو التقسيم، بخلق منطقة مسيحية خالصة وسط عالم عربي وناصري. مقابل ذلك كانت استراتيجية الطرف الآخر، والكثير من قادته مسيحيون أيضاً (جورج حاوي، نيقولا الشاوي، جورج حبش، نايف حواتمه، سمير غوشه…)، هي الإصلاح، لكنه إصلاح غامض المعالم يتراوح بين المشاركة السياسية المتكافئة التي يطرحها الإسلام السياسي اللبناني وبين دمج لبنان في المحيط التحرري العربي الذي يقوده التيار الناصري، وبين إلغاء المحاصصة الطائفية. لكن في كل الحالات اتجه عملهم نحو عزل الانعزاليين بدلا من جذبهم بحوار طويل نحو إصلاح مقبول.
الحرب قادمة بالتأكيد، لكن اللبناني لم يتخيل صورتها بعد. على سوء الوضع الحاضر كانت صورة السلام أثبتٌ في خياله من احتمالات الحرب. السلام هو الوضع العادي والمألوف، على سوء ما فيه، فإن الحياة عادية، نتوقع خلالها ما يحدث غداً وبعد غدٍ… ومع إفلات الكثير من المجرمين، لكن هناك حياة متحضرة يعاقب فيها القاتل على جريمته ويحاسب فيها السياسي على أخطائه. قبل ذلك كانت الحرب في خيالهم قطيعة مع هذا المألوف والعادي، ويستحيل أن يحدث لنا"نحن اللبنانيين نفهم بعضنا ونتعايش مع بعضنا" على حد تعبير القائد الماروني اللبناني (بيار الجميل).
مع جولات القصف الأولى. لم تتغيّر صورة السلام في المخيال اللبناني، فقد بدت القذائف الأولى مجرد حادث طارئ، ومحدد بفترة زمنية قصيرة. سيتفاهم القادة تحت ضغوط خارجية ويعود السلام كما كان. عجز الناس عن التخلي عن وضعهم السابق للحرب والتقسيم، عجزهم عن التخلي عن ذكريات تلك الحياة العادية، حتى ومع مراراتها، وقف حاجزاً إزاء توقعات ما ستحدثه الحرب بديناميكيتها الخاصة في حياتهم القادمة. لم يتخيل أحد أن ينقطع (كورنيش المزرعة) عند حد (لمتحف) بالمتاريس بحيث لا يرى طرف منه الجزء الذي يلي المتاريس لسنوات طوال فيغترب كليّا، عن الجانب الثاني. لا يمكن لمواطن (الدكوانة) أن ينقطع عن الجزء المجاور للبحر عند (الروشة). سمّهِ الرفض، الإنكار، التجاهل لما سيحدث، وهو أيضاً الخوف من تخيل ما سيحدث.

بضائع الحرب
التقط اللبنانيون المدنيون إشارات الحرب قبل أن تدوّي المدافع: خطابات القادة غادرت لغة الدبلوماسية وارتفعت، بعد مفاوضات فاشلة، لغة التهديد. أمام المكاتب وبيوت القادة تكدّست أكياس الرمل. الذخائر المميتة المعبأة بالبارود خرجت من السراديب و نقلت على عجل الى خطوط الجبهات، وغلب التوتر على حركات المقاتلين وهم يُنْقَلون على عجل بكامل عدتهم الى مواقع القتال… بضائع الحرب المشؤومة خرجت إلى واجهات الدكاكين. الشموع التي تنير في ظلمة الحرب ومجاهيلها بقعةً تبدو الأشياء القريبة حقيقية ومؤكدة، لفافات الجراح وقناني اليود التي تحفظ مع الدم حرارة تكفي لاستئناف الحياة، الحبوب المهدئة لآلام الجسد والروح، الشرائط اللاصقة المثبتة للزجاج الذي ينقل للبيت بريق الانفجار، أربطة العنق السود.لقد عرف الباعة بفراستهم ما يحتاجه الناس في حياة طارئة.
النوافذ تعكس لون الحرب القادمة. أنظر للعمارة المقابلة: أغلب النوافذ عمياء لا تَرى ولا تري حياة داخلها. أتعدّاها لنوافذ لا تزال مضاءة وأبشّر نفسي: ما تزال هناك حياة! لِمَ لمْ يهاجروا كما يفعل الأسوياء!؟ ليسوا مقاتلين ولا معنيين بالحرب؟ البيت هو وعاء كرامة مقابل هجرة مذلة إلى مجهول، لذلك يتمسكون بأمل مهتزّ: سيتعب المتقاتلون ذات يوم، ويبدأ السلام. مفاتيح بيوت المهاجرين تركت عند أقرب الجيران أو الأصدقاء المأمونين. واحد من الباقين استغرب من بحثي عن مكان آمن بعيد عن القصف:
-ولو؟- قال لي مستنكراً- عندي ستة مفاتيح.
.. هكذا قضينا ليلتين في بيت الشاعر نزار قباني. غادر لبنان مع بداية الحرب الأهلية وترك مفتاح البيت مع سكرتيره لشؤون النشر. احتفاء بي فتح لي غرفة النوم بأسرتها الوثيرة. كنت اتجول متحاشياً مزهريات صينية تصل إلى خاصرتي، مزهريات ثمينة موزعة في زوايا البيت أخاف خلال سكري من أن أصدم واحدة منها.
الزهور غيرت معناها خلال الحرب. في جولات القصف الأولى توقفت عند بائعة الزهور (لورا) في كورنيش المزرعة وسألتها باستغراب:
-أنت مجنونة، من يشترى الورد ونحن تحت القنابل؟
-الموتى يحتاجون الورد اكثر من الأحياء!
قالت وهي توضّب من الزهور أكاليل للموتى.
المقاتلون ملّوا هذه الهدنة المغشوشة. لا هي حرب، مثل أية حرب خاضوها، ولا هي سلام موثوق. الحرب المقبلة عصرت قلوبهم باحتمالات لا يريدون تصوّرها أو تسميتها. يبددون الأسئلة والترددات بسرعة الأفعال. هناك على خطوط التماس سيتحول القلق إلى فعالية والخوف إلى حماس، ويتوقف خيال المقاتل حين يطابق الفرضة والشعيرة.. لقد أصبح جزءاً من الحرب، يطلق الرصاصة ويلعنها ويهرب من الحرب، ولكن باتجاهها.

خط التماس
اسم رشيق وناعم للجرح الغائر الذي يقسم جسد المدينة ويتواجه عنده القاتل والقتيل. من (شملان) في الجبل تبدى خط التماس في الليل مثل نهر أسود يقسم المدينة الى حقلين من الماس البرّاق. تضمحّل التفاصيل من فوق ويأخذ النهر الأسود سكون الاسطورة ورهبتها. من هنا بدأت الحرب فتفجرت على ضفتيه نجيمات مكفهرة تنطفئ بسرعة، ودوائر ضوء تتسع ثم تتلاشى، وسهام نارية تقطع النهر من فوهة السبطانة باتجاه الحياة التي ينبغي أن تٌهَدْ!.
حين يهدأ خط التماس يتوضح الخط الصارم الرهيب الذي لا يمكن بلوغه ولا يمكن إدراكه، كأنه يفصل بين الأحياء والأموات! ماذا هناك؟!. ماذا وراءه؟! ما الذي يبيتونه الآن بعد تلك البناية وخلف تلك الشجرة ووراء تلك المتاريس التي تنصب عليها أشعة الشمس!؟ لا أحد يعرف ذلك، والكل يود لو يعرفه.. يخشى المرء أن يقطع هذا الخط ويريد أن يقطعه الآن مختصراً زمن الانتظار المقيت لأنه يدرك انه سيقطعه عاجلاً أم آجلاً ، يريد أن يعلم ماذا وراء هذا الخط! وهو يدرك ما الذي يوجد تماماً.. لا شيء غير الموت.
في هدنة قصيرة بعد حرب الاجتياحات ( ١٩٧٥-١٩٧٦) صعدت إلى أعلى برج لأطلّ على خط التماس. أردت أن استحضر المكان الذي أعرفه. فندق Moon Light الذي قضيت فيه ليلتي الأولى ببيروت، (سوق سرسق) الذي تاه فيه ابني نصير. في أي مكان وسط غابة الفحم هذه يوجد البار الصغير الذي كنّا نلتقي فيه، إبراهيم زاير وأنا، بالنادلة اليونانية، التي توهمنا، كما آخرين بأنها معجبة بنا…لم يبق من هذه الأماكن مَعْلَمْ. كل شيء تغطى بلون الفحم. لا أحد من زحمة الناس السابقة يسير في شارع الموت هذا غير كلاب سائبة مقوّسة الظهور تبحث في الركام عن بقايا لحم آدميّ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الطبيب أنور وصاحب "ألوان"

العمود الثامن: إخجلوا !!

الغاز الإيراني و الفرصة التاريخية

قناطر: قبورنا التي تلتهمنا

بيت المنقسم والمعركة المؤجلة: أزمة الشرعية في ظل استحقاق انتخابي مضطرب

العمود الثامن: إخجلوا !!

 علي حسين يخوض السياسي العراقي، وعذراً على كلمة "سياسي" التي لا تنطبق على 80 بالمئة ممن نشاهدهم على شاشات الفضائيات، معارك من اجل المغانم بحجة انهم تبحروا في علوم السياسة حتى تجاوزوا عميد...
علي حسين

قناطر: قبورنا التي تلتهمنا

طالب عبد العزيز بعيداً عن السردية الدينية التي تؤسس لمقبرة النجف(وادي السلام) يتوجب على الدولة العراقية أنْ تفكر ملياًّ في المساحات الشاسعة من الأرض التي تقضمها المقبرة، إذا ما علمنا بأن 500.000 الف جنازة...
طالب عبد العزيز

الغاز الإيراني و الفرصة التاريخية

ثامر الهيمص نعم الغاز الايراني بات درسا، بل قاسيا وضعنا في حرج شديد ووضع الحليف الامريكي في الاشد انسانيا واخلاقيا. اذ لا زال الغاز الايراني يتدفق باريحية عالية الى تركيا, فبطلت الحجة. وهكذا بلا...
ثامر الهيمص

بيت المنقسم والمعركة المؤجلة: أزمة الشرعية في ظل استحقاق انتخابي مضطرب

محمد علي الحيدري حين تقترب اللحظة الانتخابية، لا تختبر الأنظمة السياسية فقط قدرتها على التنظيم والإدارة، بل تُعرّي أيضًا بنية التفاهمات التي قام عليها التوازن السياسي في مرحلة ما. وفي الحالة الراهنة، يبدو أن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram