محمود هدايت
"الفيلم، وكل شيء فني، وسيلة للخروج من وجودنا البُعدي إلى الزمن. إننا نتخيل أشكالاً مختلفة من الواقع لأننا لا نستطيع أن نفلت من واقعنا"
ــــ أليخاندرو إيناريتو، وشعرية الصدفة
في تاريخِ السينما يحتفي «جان لوك غودار» بسينما الروائيةِ ــــ المخرجةِ «مارغريت دوراس»، يستعرضُ تجربتَها إلى جانبِ «فرانسو تروفو» كرافدينِ مهمينِ في تأسيسِ سينما الموجةِ الجديدةِ، وكما يبدو أنَّ لهذا الاحتفاءِ أسبابَهُ، ومنها أنَّ «دوراس» ككاتبةٍ وفنانةٍ تنشغلُ في رصدِ الهشاشةِ الروحيةِ للكائنِ البشريِّ، إذ تبلغُ أقصى درجاتِ التماهي في توثيقِ زمنِ الدمارِ الذي يمخرُ المرءَ ويحوّلُهُ إلى مجردِ أصداءَ لما يمرُّ عبرَهُ من أزماتٍ تتعسرُ رؤيتُها بالعينِ العابرةِ، إنّما هي في حاجةٍ لعينٍ تنشبكُ مع خيوطِ المأزقِ.
في جملةٍ شعريةٍ تبرقُ في جسدِ اللغةِ، يكتبُ الشاعرُ «جان تارديو» " الزمن يعلو مثل البحر" فإنْ مارسْنا الالتفافَ حولَ ما تعنيه هاته القذفةُ الحسيّةُ - ممّا لاشكّ فيه - سنجدُ أنفسَنا أمامَ تنقيبٍ ذاكراتيٍّ في مآلاتِ الخيالِ كغيابٍ يمتحُ من النسيانِ ذاتِهِ تذكرَّهُ، ما يجعلُ الماءَ مضطلعًا بلعبةِ النسيانِ والتذكيرِ بالنسيانِ نفسِهِ في آنٍ واحدٍ، وهذا عينُهُ ما نلمسُهُ في سينما دوراس، فالصورةُ لديها سيمرغيةُ الحضورِ، بمعنى أنّها تتشكلُ لتغيبَ وبالعكسِ. ولا شكّ أنّ هذا الأسلوبَ صعبٌ بلوغُهُ؛ ذلك لأنّه يجمعُ بينَ الشعرِ والفنِّ في اشتغالٍ واحدٍ.
تفتشُ كاميرا «دوراس» عن بدايةِ الأشياءِ ونهايتِها كحركةٍ مؤثرةٍ ترسمُ مسارَ الكائنِ الإنسانيِّ في لحظةِ صراعِهِ مع الزمنِ، كأنّها بذلك تعملُ على منحِ الروحِ فرصةَ الصراخِ الشاعريِّ الذي سيدفعُ حتمًا باتجاهِ امتلاكِ الصورةِ السينمائيةِ شاعريةَ الصمتِ، الذي لا ينفكُّ يتبلورُ زمنيًّا في الروحِ الراغبةِ بمضاهاةِ الحضورِ بشعريةِ (الغيابِ الديماسيِّ) ويُعرّفُ هذا الأخيرُ على أنّه فعلٌ تحتَ أرضيٍّ، يأخذُ فيه الإنسانُ دورَ حيوانِ الخلدِ في الحفرِ عميقًا في الأرضِ دونما اكتفاءٍ وتوقفٍ، إذ طالما ثمّة أرضٌ، إذن، فالحفرُ في تواصلٍ نهمٍ، وهذا ذاتُهُ ما يتبدّى في سينما «مارغريت دوراس»، التي هي أيضًا تتمتعُ بـ(كاميرا ديماسيةٍ) لا يُردُّ شغفُها في بلوغِ أسرارِ ما غابَ عن السطحِ، ولا تُحدُّ طاقتُها بصورةٍ أسراريةٍ، إنّما نجدُها دومًا مدفوعةً باتجاهِ ما لا يُبلغُ إلّا بعينٍ ضالعةٍ بتزمينِ حركةِ الأشياءِ والطبيعةِ؛ لكونِها ترى أنّ رصدَ الإنسانِ يكمنُ في تعقّبِ أثرِهِ الحسيِّ ــ الوجوديِّ.
في سينما «مارغريت دوراس» الصورُ تماثيلُ متحركةٌ، حيثُ لا شيءَ في الأفقِ سوى أزمنةٍ تُهمهمُ كأنّما جنازةٌ لامرئيةٌ لمجهولٍ نترقبُ مجيئَهُ، لكنْ في نهايةِ المطافِ لا شيءَ يحدثُ ولا أحدَ يجيءُ كما يقولُ صمويل بيكيت على لسانِ فلاديمير، ويبدو لي أنّ هذا النوعَ من الصورِ يمكنُ استقبالُها على أنّها حدادٌ زمنيٌّ على حركةٍ لم تعدْ تُرصَدُ إلا كموتٍ متقطعٍ ومتباطئٍ في آنٍ واحدٍ.
إنّ هكذا نوعًا من السينما يمكنُ له أنْ يكونَ تعويضًا عن دهشةٍ تكادُ تغيبُ نهائيًّا، لكنّها كثيرةُ المحاولاتِ كرهانٍ وجوديٍّ على استعادةِ إيقاعِها في ما تخلّفُهُ من أثرٍ ورائِها، من خلالِ تكثيفِ شاعريةِ (جماليات البطء) في الصورةِ التي هي قطبُ الغيابِ في السينما الديماسيةِ.
إذن، نحن بصددِ سينما تجترحُ ممرّاتٍ سريةً ( صورًا) تربطُ متاهةَ الكائنِ الباحثِ عن أسئلتِهِ في زمنٍ غائمِ الأفقِ، يقذفُنا في دواماتِ العدمِ الذي يأخذُ من شكلِ الحيرةِ الوجوديةِ هيأتَهُ التي هي ليسَتْ سوى تلاويحِ انقراضٍ آتٍ، لا مكانَ فيه سوى للهروبِ من الوجودِ نفسِهِ، ومراقبةِ كيف نتآكلُ صمتًا في مرآةٍ مجذومةٍ، في التحديقِ فيها لا شكّ سنكونُ خارجَ دائرةِ الحضورِ، فنغدو كأنّما أشجارٌ نابتةٌ في رمالٍ متحركةٍ، إذ الحضورُ والغيابُ يوازيان بعضَهما، ولا شكّ أنّ هاته الحالةَ هي ذاتُها الإيقاعُ الشاعريُّ الذي تسعى مارغريت دوراس إلى ترسيخِهِ كاشتغالٍ فكريٍّ وحسيٍّ في مجملِ أفلامِها. كيف تتحولُ الكاميرا إلى يدٍ ديماسيةٍ تتركُ أثرَها في الصورةِ والعينِ معًا، كأنّما فرشاةُ سيزان تحفرُ في النظرةِ لتصلَ إلى حيثُ يجدُ الفنُّ سكونَهُ الأسطوريَّ، الحالةُ التي لا يمكنُ للفنانِ أنْ يبلغَ سرَّها دونما توريطٍ للخيالِ في السياحةِ الميتافزيقيةِ، هناك حيثُ تنوجدُ الهمهماتُ التي هي احتفاءٌ بصلواتِ الصمتِ، وأحسبُ أنّ في هذا الارتقاءِ وحدَهُ تتمثّلُ نشوةُ الحواسِّ، فهكذا نوعٌ من الفنِّ في مسيسِ الحاجةِ إلى خيالاتٍ مفكرّةٍ وليس عقولًا، وبلا شكّ أنّه ضربٌ من ضروبِ هزيمةِ التلقي الاتكاليِّ والمتسرعِ، إذ إنّه في هاته السينما هو البطءُ، هو الوسيلةُ والغايةُ في آنٍ واحدٍ، الصورُ في هاته السينما تتحركُ على الشاشةِ كتنميلٍ يحتلُّ جسدَ الوجودِ ويحفرُ في أعماقِهِ بتؤدةٍ لا نهائيةٍ.
مثّلَتْ هاته السينما ظاهرةً خاصةً لفتَتْ أنظارَ نقادِ ومخرجي تيارِ سينما مابعدَ الحداثةِ، ومن بينِ تلك الأسماءِ، كان لجان لوك غودار دورٌ كبيرٌ في إلفاتِ النظرِ لفرادةِ هاته التجربةِ السينمائيةِ وأهميتِها في إحداثِ طفرةٍ نوعيةٍ في تأريخِ السينما الطليعيةِ المنبثقةِ من أعماقِ سؤالِ الروحِ العليا للكائنِ، السؤالُ ذاتُهُ الكامنُ في تضاعيفِ الأدبِ الدوراسيِّ الذي لا يمكنُ تجميدُهُ في قوالبَ جاهزةٍ، بمعنى أنّ هاته السينما هي انبثاقٌ سريٌّ من جوهرِ التجربةِ الروائيةِ للمخرجةِ، أو لنقلْ إنّ هاته الأشرطةَ الفيلميةَ هي نظيرٌ بصريٌّ لخيالاتٍ سرديةٍ شديدةِ التوهّجِ كالعاشقِ، وابنةِ القنصل، وغيرِها من النصوصِ الروائيةِ التي وضعَتْ دوراس في مقدمةِ لائحةِ الأدبِ الإنسانيِّ الأصيلِ.
في مجملِ مسيرتِها الإخراجيةِ انتسبَتْ مارغريت دوراس إلى شجرةِ سينما المؤلفِ، ما يجعلُ أفلامَها تنطلقُ من ذاتيةٍ مكثّفةٍ، وفي أحيانٍ كثيرةٍ تحضرُ الذاتُ في تجربتِها كقطبِ خيالاتٍ لا يمكنُ عدُّها محطةً عابرةً وحسبُ، وإنّما هي معملٌ لتوليدِ وإنتاجِ أسئلةٍ حادةٍ عبرَ ما لا يُرى، وهذا الأخيرُ هو أكثرُ ما يشغلُ فنانةً وكاتبةً مثل دوراس. بمعنى أنّها ليسَتْ معنيةً بصناعةِ فنٍّ جماهيريٍّ يموتُ بمجردِ مغادرةِ قاعةِ العرضِ، إنّما أعمالٌ فنيةٌ تُسهمُ في بلوغِ الكائنِ أسطوريتَهُ، وبعبارةٍ أخرى، تكثيرُ أرقِهِ الوجوديِّ الناجمِ عن مسيرةِ قلقٍ استطاعَ أنْ يغزوَ الكائنَ، مجردًا إياه من فتنةِ السكونِ الروحانيِّ، ذلك عبرَ القذفِ به في دواماتِ الفوضى، التي لا يستطيعُ أحدٌ الصمودَ في وجهِها سوى العملِ الفنيِّ العابرِ لحدودِ مغامراتِهِ بضرورةِ إدامةِ امتلاكِ الخيالِ شغفِ التدميرِ الفكريِّ والجماليِّ، ولا أعني هنا بالتدميرِ ذلك النمطُ الشكلانيُّ منه، بل الذي يمتاحُ من العاصفةِ الوجوديةِ الملتهمةِ للفنانِ بكلِّ تواريخِهِ وأزمنتِهِ.
حضرَتْ مارغريت دوراس كممثلةٍ إلى جانبِ جيرارد ديبارديو في واحدٍ من أهمِّ أفلامِها وهو (الشاحنة) وتشكلَتْ ثيمةُ الفيلمِ من اعتمادِ آليةِ (التعليق المعاود) حيثُ مناقشةُ سيناريو فيلمٍ يحكي حياةَ امرأةٍ تسعى إلى فهمِ معنى أنْ يكونَ الإنسانُ على تماسٍّ مع العالمِ، والاشتغالُ ذاتُهُ نتلمّحُهُ في أفلامِها الأخرى كفيلمِ أغنية الهند، والموسيقى، وامرأة الغانج، فعندَ متابعةِ هاته الأفلامِ نجدُ أنّ دوراس استطاعَتْ أنْ تؤسسَ خطًّا إخراجيًّا غايةً في الإبداعِ والفرديةِ، سينما ذات كاميرا ديماسيةٍ، لا تتوانى أبدًا في الحفرِ والتنقيبِ في الطبقاتِ السحيقةِ للكائنِ البشريِّ، راصدةً بذلك جذرَ محنةِ الوجودِ، الصورُ فيها تولدُ من رحمِ الضرورةِ البصريةِ، إذ لا مجالَ ههنا للمحاكاةِ والفهمِ المباشرِ.
لا يمكنُ تحقّقُ المتعةِ الفكريةِ في عملٍ فنيٍّ دونما وجودِ فنانٍ منفتحٍ على الهاويةِ الروحيةِ التي تلتهمُ ما حواليه، وأنْ يحضرَ في العالمِ بأزماتِهِ وتحولاتِهِ، وفي مقابلِ ذلك يتّعينُ عليه أنْ يكثّفَ من التمترسِ بالداخلِ الذاتيِّ؛ ذلك لأنّ الفنَّ الخالدَ كما يقول ريلكه يستمدُّ طاقتَهُ الروحيةَ ورهانَهُ الزمنيَّ من قانونِ العاطفةِ الفكريةِ، أي تلك التجربةُ التي يتوجبُ على الفنانِ والكاتبِ مراكمتُها، والانبثاقُ منها إذا ما أرادا لأثرِهما أنْ يُزمّنَ.










