TOP

جريدة المدى > سينما > افلاطون وقِطَّةُ (فيضان).. رؤية سينمائية لعالم ما بعد الكارثة

افلاطون وقِطَّةُ (فيضان).. رؤية سينمائية لعالم ما بعد الكارثة

نشر في: 17 إبريل, 2025: 12:23 ص

علي الياسري
يطفو (فيضان) فوق حكايته بمصداقية شعورية مثيرة. فهو ينجو من التقليدية والمعتاد للنوع من خلال الاستعانة بأدوات تقنية فنية مُشاعة للجميع لكنها غدت مع المخرج الليتواني غينتس زيلبالودس مدخل ابداعي خلاق وجاذب للجمهور نحو فيلم رسوم متحركة بجودة عالية، تنجو في فُلكِه الصغير بحجمه الكبير بمعناه الحيوانات دون البشر المخطئين الذين حطموا عالمهم الجميل بشرهم المتفاقم فكان ان نَفَتْهُم منه الطبيعة والسردية السينمائية.

ميزة (فيضان) أنه اعمق حتى من تصوّرات مخرجه وكادر العمل. فجاذبيته العاطفية المستحوذة على انتباه الجمهور وإيقاعه المتماسك دراميًا أينما عُرض والتي جعلت الجوائز تنهمر عليه دفعت الى السطح طبقاته الروائية الحاملة لرؤى تأمل فلسفية عن معاني الحياة وهي تجدد دورة الوجود حين تجتاح روحها المشهد المنظور فتمحو بالغياب أثر الجناة بعد ان تُعاين اضراره. ثمة جمال راسخ في المرثية البيئية والاطلالة الواقعية على منظر الطبيعة المزدانة برومانسية لونية تحمل نضارة التجديد لما بعد الكارثة. عفوية سلوك الحيوانات التي تجنب المخرج دفعها الى الحديث المنطوق كي لا تتصرف مثل البشر وحتى يعطيها بُعدًا آخر يجعل القصة تتدفق احاسيس وتمتلئ بالتشويق بالاعتماد على غرائزها لخلق التواصل. كل ذلك يقوده خط حكاية ينطلق من رحلة القِط الساعي للنجاة من خوفه الاجتماعي قبل حرصه على حياته حيث تدفعه تهديدات الطوفان الكارثية الى التفاعل مع المحيط البيئي وتنمية سلوك ودي بناءًا على الاستجابة العاطفية الايجابية. استلهم المخرج اللاتفي القصة من فيلمه القصير الاول المستوحى من حكاية قطته الساعية الى التغلب على مخاوفها من الماء. يقول زيلبالودس "فكرت في سرد قصة عن شخصية عليها ان تتعلم التعاون والعمل مع الاخرين ورأيت ان القطة ستكون بطلة رائعة لها. لذا اعدت النظر في فكرة احد افلامي القصيرة السابقة وأضفت مجموعة من الشخصيات بما في ذلك كلب مستوحى من كلاب امتلكها. انصب تركيزي على خوف القطة من الحيوانات الاخرى. لا يزال الماء موجودًا لكن القصة في الواقع تدور حول علاقات هذه الشخصيات."
يتأسس الفيلم فكريًا على مزيج من نظريات معاصرة لما بعد الكارثة مخلوطة بشيء من فلسفة افلاطون حول نهاية العالم، وسواءً ورد ذلك في بال صنّاع الفيلم ام لا فإن سيناريو الاحداث في (فيضان) ونمو شخصياته الجاذب هو صورة لقدرة السينما على جمع المتناقضات الفكرية للفلسفة بخيال الواقع الناشئ في رواية الفيلم. فحين تؤكد الفرضيات الحديثة لما بعد نهاية العالم على ان الندرة هي اساس الصراع يذهب افلاطون الى ان النزاعات ستختفي وسيُحسن الناس التعامل مع بعضهم البعض. جُل الاحداث الدرامية التي يرويها الفيلم تعتاش على هذا الانغماس الفلسفي في عالم يتأرجح على الحافة بين النجاة والهلاك، تبحث فيه الحيوانات الراكبة في الزورق عن ملاذ يعصمها من طوفان الماء وهو ما يجبرها مع تطور الوقائع وبروز المخاطر على تجاوز ريبتها الفطرية من اجل التعايش في واقع جديد. يمكن ادراك ذلك جليًا بلحظات التضامن بينها وهي تكافح للبقاء معًا في مواجهة قوى الطبيعة الجارفة.
اعتمد المخرج اللاتفي زيلبالودس في مرجعية عمله السينمائي على نمط الحكاية وطبيعة الدراما الواردة في أنمي المخرج الياباني هاياو ميازاكي (فتى المستقبل كونان) والمأخوذ عن رواية الكاتب الامريكي ألكسندر هيل (المد الهائل) والمعروف عربيًا تحت عنوان (عدنان ولينا). ومثل كل افلامه السابقة كان الصمت هو طريقه للمرور الى رحبة لغته البصرية المرتكزة على تشويق الغموض وانعطافات الرحلة وعاطفة البريّة المُحَفِزة. فحيوانات زيلبالودس لا تتحدث مثل البشر وبالتالي لا تفكر مثلهم. تتصرف وفق غريزتها للبقاء في محيط مُريب، لكنها وللمفارقة تنصاع لضغوط الطبيعة وهي تجدد دورتها فتنحاز متجاوزة حاجر الخوف للتكاتف مع اخرين نحو هدف النجاة.
من المُلفت والمهم ان نلاحظ كيف استطاع المخرج استخدام سوفت وير مجاني متاح للجميع لتحقيق فيلم حصل على النجاح الجماهيري والنقدي فتساقطت عليه مثل المطر جوائز كالاوسكار والغولدن غلوب والسيزار وعشرات غيرها. يتيح استعماله الفطن لبرنامج بلندر رؤية كيف بنى رؤيته الفنية للأفكار المُهتمة بالتفاصيل الدقيقة كالمناظر الطبيعية المزدانة بالمعمار في الخلفية ما يدعم توليد المَسْ العاطفي الناشئ من تجربة المغامرة الحياتية الصعبة للشخصيات، وهو عمل يبدو قريبًا من موتيفات الرسام الالماني الرومانتيكي كاسبار فريدريتش الذي كانت لوحاته تأمل روحي في مفاهيم العزلة للعناصر البشرية والموجودات كمعمار ضمن المناظر الطبيعية حيث تُلهم قوة تعبيرية عاطفية تترصد الخطوب خلف المدى المجهول. يعمل زيلبالودس على اظهار عزلة شخصياته والتي ستشكل الدافع لما يليها من ألفة اجتماعية بملامح مُبَسّطة تمر بانسيابية لجوهر كائناته ما يعطيه المساحة البصرية لتمثيل المشاعر المُجسدة للحالات العاطفية. تعمل ألوان الاخضر والازرق وتدريجاتها على نقل احساس الطبيعة للصورة مع تعزيزها بلون التراب الخافت للمعمار في الخلفية ما يتيح توفير البيئة الملائمة لشخصيات الحيوانات بالبروز والتنامي تجمعها كاميرا تتحرك بذكاء تسعى لالتقاط النظرات والحركات المؤسسة لديناميكية العلاقات بينها. يعتقد المخرج اللاتفي انه يفضل الاستلهام من الاسلوب الاخراجي والمعالجة السينمائية للافلام الواقعية الحَيّة اكثر من صُنّاع افلام الرسوم المتحركة كأستوديو جيبلي رغم تقديره لما يقدموه. لهذا كانت حركة الكاميرا بالفيلم اشبه بِأُسلوب المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي يستخدم اللقطات الطويلة والاضاءة الطبيعية لخلق شعورًا بالتدفق والاستمرارية العاطفية ما يسمح بغمر الشخصيات ومعها المُشاهد في البيئة السينمائية ونسق الحدث الدرامي. ينجح صانعو الفيلم في توليف كل ذلك للخروج بنمط يمتلك مصداقية شعورية مثيرة بقدرتها على اعطاء التواصل المثالي للحيوانات مع بيئتها ولحظتها الزمنية وكيفية النجاة بالتواصل و الصُحبَة الاجتماعية. تبدو الموسيقى التي ألفها المخرج بنفسه حاضرة بقوة في ذلك تعوض غياب الحوار وتدعم العواطف وتستبين الاحاسيس.
التصور الدوري للزمن حيث الصعود والهبوط والتدمير للحضارات الوارد بفلسفة افلاطون يبدو حاضرًا في سلوك الحيوانات المكافحة من اجل البقاء في بيئة ما بعد الكارثة. ان اثر البشر المُهلِك يتجسد في وقوع الطوفان واختفاء وجودهم على طول السرد السينمائي. امر رغم سوداوية طرحه وكآبة تصوره لكنه يسمح لنا بالتأمل في طبيعة العيش لباقي الكائنات في لحظة غياب الانسان وقدرتها على التكيف مع الواقع بدونه. يقدم الفيلم نفسه بالأَسى الشفيف والعواطف المتباينة تحت خيال شبح الفناء المُخيم على انه ابعد من بهجة الطفولة المُعتادة في افلام الرسوم المتحركة، فمقاربته الروائية الفريدة تتأتى من نزوعه نحو البناء التراكمي لمشاعر التضامن والتكافل وتوليد الصداقات القوية كواجهة للنماء الاجتماعي في وقت المحن والازمات.
على المستوى الفني والسردي ينجح المخرج اللاتفي في صياغة نظرة مختلفة ومميزة للنهايات القاسية التي تتجه اليها خطى الحضارة البشرية حين يرتكز على الامل والتفاني العاطفي للخروج من محنة التقدم المعرفي وأمراضه المتكررة والمحكومة بالفناء. كما يُفلِحُ تقنيًا في تحقيق نتيجة مثالية بالاستخدام المميز والذكي للأدوات والميزانية المتواضعة فيقدم لنا بفيلمه (فيضان) صورة جليّة لكواليس صناعة الرسوم المتحركة في السينما المستقلة توضح ان المعرفة الواعية مع امكانات الموهبة والحس الفني السليم يمكنها تحقيق التنمية الابداعية مهما كانت الوسائل واطئة الكلفة شرط توفر الافكار الواعدة والاستخدام الامثل لها بما يتيح خروجها بأفضل صورة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

ضمن موجة الأفلام الأوركسترالية. .
سينما

ضمن موجة الأفلام الأوركسترالية. . "الموسيقيون".. لمسة خيال جديدة

ترجمة: عدوية الهلالي ربما تشير موجة الأفلام الأوركسترالية التي انتجت في السنوات الأخيرة إلى ميلاد نوع سينمائي جديد، وفي فيلم "الموسيقيون"المعروض مؤخرا للمخرج غريغوري ماغني، تسوء بروفات الرباعية المتكونة من اربع عازفي كمان محترفين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram