حيدر جمعة العابدي
لا تبتعد كثيرا رواية سفينة إسماعيل عن المتون السردية التي اصدرها علي لفته سعيد بل شكلت حلقة وصل وامتداد فكري وادبي لمسيرة الاديب ورؤيته الفنية التي يحاول من خلالها البحث في عمق الذاكرة الاجتماعية والتاريخية للمجتمع العراقي بكل تحولاته السياسية والطبقية وتأثيرها على الواقع بكل مستوياته النفسية والاجتماعية داخل اطار المسكوت عنه او ما حاولت اخفائه السلطات السياسية المتعاقبة بما تحمله من ايديولوجيا واجندات فكرية.
تدور احداث الرواية عن بطل الرواية إسماعيل الساكن في مدينة كربلاء ذات التوجه الديني ينحدر من عائلة فلاحية تمتلك قطع أراضي زراعية كبيرة، اجبر على ترك الدراسة بسبب سطوة والده ورغم انه بسيط الشهادة لكنه اخذ في قراءة الكتب الفلسفية والدينية لتعويض حرمانه من المدرسة كون والده يكره كل الانتماءات الفكرية التي تخالف عادته وتقاليده لذا يحاول ابعاد اسماعيل عن كل ما يمد صلة بهذه الأفكار او التوجهات الايدلوجية والفكرية التي كانت تعصف بالمجتمع العراقي آنذاك وهي فترة تمتد من الحقبة الملكية والى ما بعد السقوط 2023
تبدأ الاحداث بطريقة سرد الفلاش باك او السرد العكسي من اخر لقاء جمع بين إسماعيل وحبيبته (زمن) ثم العودة للماضي حين التقى بحبيبته اول مرة وهي تعمل معلمة في احدى القرى القريبة على قرية إسماعيل من طبقة فقيرة، يبدأ هذا الحب من أول نظرة ويستمر على طول زمن الرواية واحداثها كتجربة فريدة في حياة البطل ليعيد تفجير الكثير من الأسئلة وطرح العديد من الاجابات و الأسباب التي تقف وراء إعادة انتاج هذا الواقع المخيب للآمال واقع مكتنز بالصراعات الأيديولوجية والاجتماعية يصنع الانقسام السياسي والاجتماعي والطبقي ويطيح بكل شيء جميل ومختلف من حوله يتغذى هذا الصراع و يرتكز على بؤرة مركزية ينمو منها ويتوسع من خلالها على جميع اشكال الحياة. فهو صراع على نوعية الحياة المراد انتاجها من خلال قيم ومفاهيم ماضوية ظلت على اثرها شخصية الفرد العراقي كما يسميها علي الوردي متشابكة ومتصادمة داخل للاشعور الجمعي للمجتمع العراقي وهو صراع ازلي بين حراس وكهنة الماضي القديم وقيمه وتقاليده والذي تمثل في الإباء المؤسسون و بين جيل الحداثة والتجديد والمقاطعة مع الماضي متمثلا بالأبناء وهو صراع يظهر بعدة مستويات سياسية، ودينية، واجتماعية، ورمزية، نفسية، نحاول في موضوعنا فك شفرة هذه المستويات ومغذياتها المرجعية.
المستوى النفسي والاجتماعي:
حيث يبدأ بخوف إسماعيل من سلطة الاب وسطوتها عليه في كبح جماحه في اكمال دراسته ويتوسع ليشمل علاقته مع من حوله التي شكلت عقبة وقيد فكري واجتماعي امام تطلعاته في البحث عن حياة مختلفة و حياة افضل، لكنه في كل مرة تنتهي أحلامه بالفشل في علاقته مع الأرض والاقارب، وهو ما اسهم في خلق انقسام يخلق تداعيات كبيرة وخطيرة داخل شخصية إسماعيل رغم انه فشل يبدو محدود ضمن قرية صغيرة لكن الكاتب نجح في جعله مرآة عاكسة لصورة اكبر على باقي المجتمع العراقي.
فتوزع ذلك الى اتجاهين متوازيين الأول الذي مثل علاقة اسماعيل بزمن فمن قصة حب تكاد تكون في منتهى العفوية والبساطة في لقاء عابر بين شخصين يتبادلان النظرات والابتسامة ينمو هذه المستوى الفني والجمالي ويذهب بنا بعيدا في قلب تحديات الواقع حول قصة حب لم تكتمل بين بطل الرواية إسماعيل وحبيبته زمن والتي تدور حولها كل احداث الرواية فعدم اكتمال هذا الحب او حتمية الفشل فيه يكشف الكثير من هذه التداعيات حيث ينتهي هذا الحب في لقاء معبر عن حجم الخيبات بدائرة التقاعد البائسة بعد أربعين عاما من الغياب إسماعيل وهو يرفع معاملة تقاعده من شرطة الاثار و زمن بعد نهاية عمرها الوظيفي وهي صورة تكشف التأثير الاجتماعي المدمر لحياة الانسان الفرد فلا حب يدوم بدون مباركة الإباء والمجتمع (متى تستطيع الكلام ومتى تستطيع المواجهة، وأيضا متى يمكن أن تصطنع الموقف أمام القوة) ص70.
المستوى الاجتماعي والسياسي
يمثل هذا المستوى صراعًا طبقيًا بين الفقراء والأغنياء، كما يتجلى في الفارق الاجتماعي بين عائلتي إسماعيل وزمن. كذلك، يعكس صراعًا أيديولوجيًا بين الحزبين الشيوعي والبعثي داخل البيت الواحد، حيث يتواجه الأخ الأكبر مع الأخ الأصغر. بالإضافة إلى ذلك، يظهر صراع بين العشيرة والعودة إلى الأرض، وبين الفكر القديم الممثل في جيل الآباء والجديد الممثل في الأبناء. هذه الصراعات تتداخل في مستوى أعمق، حيث تترسب كل هذه المستويات وتنطلق كمرجعيات قيمية ثابتة.
المستوى التاريخي والثقافي
يتمثل هذا المستوى في الصراع بين اللاوعي المرتبط بالأبوية والعرقية والطبقية، وبين الوعي المرتبط بالثقافة والتجديد والحب والاختلاف. تجسدت الحالة الأولى في شخصية إسماعيل، الذي استسلم لهذه التابوهات التاريخية. فهو يرضخ لقوانينها دون مقاومة تُذكر، باستثناء بعض المحاولات الخجولة كعلاقته الخفية بزمن وقراءته كتب الفلسفة. لكنه، في النهاية، يهرب إلى أوهامه الداخلية كنوع من الولاء لماضي الآباء والأرض، نظرًا لما تقدمه هذه الأرض من سلطة مال وجاه للأب والقبيلة والقرية. وظل إسماعيل يعيش تحت سطوة الماضي التاريخي الذي يحكم المجتمع العراقي، ما أدى إلى فقدانه الرغبة في الخلاص من هذه القيود وكسر صورة الماضي والتمرد عليه:
"قبل نكراني لتهمتها الرائعة، بوقوعي في الحب والبحث عن لحظة لا أختنق ببلع ريقي، سمعت صوت أبي. زلزال هزَّ النخيل وأركان البيت وسياجه الذي تدخل منه الكلاب والدجاج والقطط. صوت قنبلة انفجرت في رأسي، مزروعة من الحرب العالمية الثانية، حالما سحقها صوت أبي بقوة عصبيته."