رزاق عداي
دائما يكرر القادة الصينيون وفي كل مناسبة على تسمية اشتراكيتهم بـ -الاشتراكية ـ ذات الخصائص الصينية سعياَ منهم نحو تميزها كنوع مختلف عن تجارب سابقة تعرضت اغلبها للاخفاق، كالتجربة السوفيتية او تجارب اخرى في انحاء اخرى من العالم، وبهذا يكون الصينيون قد نزعوا عن الاشتراكية التقليدية صفتها التي لطالما كانت تنادي بها.
الا وهي العلمية، وابتداءاَ من هذا التاريخ باتت للاشتراكية تنويعات متعددة وفقاَ لخصائص البلدان السالكة للمسار الاشتراكي، واجتهاداَ من الاحزاب الاشتراكية وتصوراتها وفقاَ لممكنات بلدانها، فتكون المقارنة والمقاربة بين تجربتي الاتحاد السوفيتي السابق وتجربة الصين المتنامية هي الاكثر تعيناَ، في توصيف تجربة الصين والتي ما زالت في طور الممارسة والتقدم في المضمار العملي.
الذين تابعوا الخطوات السريعة لتفكك الاتحاد السوفيتي السابق يجمعون على ان دعوات الاصلاح فيه في السنوات الاخيرة قبيل انهياره انطلقت من هرم السلطة السياسية متمثلا في مشروع طرحه الرئيس السوفيتي الاخير (ميخائيل غورباتشوف) سماه (البيروسترويكا)، اعترضت عليه مستويات ادنى بذريعة ان الشروع بمثل ذلك المشروع سيضعف قوة السيطرة على جمهوريات اخرى البعيدة عن المركز، مما يستوجب اتخاذ اجراءات اخرى غير محسوبة، فيذهب بالبلاد الى تفكك المنظومة السياسية برمتها، وهو ما حصل لاحقاَ، بالمقابل كانت فكرة المناصرين لهذا المشروع تقول بان لا مناص من الاصلاح فيدونه ستتعرض الدولة السوفيتية في المستقبل القريب الى الفشل، وتصبح في حال غير قادرة على الايفاء باْلتزاماتها الدولية بوصفها دولة كبرى محورية في عالم ذي قطبين، وفي حالة التراخي في اجراء الاصلاح سيؤدي الى فقدان امكانية المبادرة على حل الازمات وتراكمها، وهذا في حد ذاته ما سيشكل خطراَ اقتصاد وسياسياَ كبيرين.
الاصلاح في الصين اختلف عن نظيره السوفيتي وان كان متزامناَ معه الى حدٍ ما، فقبضة (دنغ شياو بنغ) على زمام السلطة كانت قوية، ومبادرة الاصلاح بعد وفاة (ماو تسي تونغ) 1976 كانت حازمة وتمكن من الحفاظ على وحدة البلاد، ولكن الاهم في تجربة النموذج الصيني هو نوع الاجراءات الاقتصادية العميقة والجذرية، فالاقتصاد الصيني قبل ((دينغ)) كان يتمحور حول انتاج نموذج مركزي، الزراعة الجماعية في المناطق الريفية، والشركات الحكومية في المناطق الحضرية، كما ان الحكومة هي التي من كانت يحدد الاسعار بدلا من السوق، لذا عمد دينغ الى اطلاق سلسلة من التدابير والاجراءات الجذرية والمهمة، كفتح الاقتصاد الصيني المخطط امام التجارة والاستثمار الخارجي، وتفعيل كل قطاعات الاقتصاد بلا استثناء، ودمج الاقتصاد الصيني بالاقتصاد العالمي، وفي نفس الوقت لم يترك للسوق الحبل على الغارب من اول لحظة، كما فعلت دول اوربا الشرقية، اذ سمح للاْقتصاد الجديد ان ينمو خارج الخطة القديمة، مثلا لم يجر خصخصة الشركات الحكومية، اذ جعل قطاعي الدولة والخاص يتحركان بالتوازي، واعطى المستهلك حرية الاختيار، ولهذا اجبر الشركات الحكومية على الاستجابة لطلب السوق في ممارستها الانتاجية، وهكذا اخذ الاقتصاد الصيني يتقدم ويحقق مستويات نمو متتالية، ولكن وفي نفس الوقت الذي بات فيه القطاع الخاص في داخل البلاد وخارجها يشكل مقوماَ اساسيا في النشاط الاقتصادي راح هذا النشاط الاخير يطالب بحرية اكبر في مناخ عولمي واسع شرطه الاساس هو حرية التجارة العالمية والمبادرة الذاتية للشركات في النشاط في نفس الوقت الذي يدعو فيه الرئيس الحالي للصين الى توزيع اكثر عدالة للثروة، وتحقيق ذلك جزئياَ من خلال المزيد من التدخل الحكومي في الاقتصاد، واتخاذ خطوات تجعل الاغنياء يتشاركون نجاحهم، وهو في هذا الخطاب يكون مدفوعا بالايديولوجيا اكثر ممن سبقه.
فعندما جرى الاحتفال مؤخراَ بالذكرى المئوية لتاْسيس الحزب الشيوعي الصيني لم تظهر بوادر التخلي عن تعاليم (ماو) و(دينغ هشياو بنغ) مع الرئيس الاخير (شي جين بنغ) الذي يجمع في شخصه عدداَ من السلطات، كرئيس للدولة، ورئيس للجنة الهسكرية المركزية، مما يجعله اقوى شخصية بعد رحيل ماو، ومع ذلك لا يبدو انه تمكن من لجم كل التناقضات التي افرزها السلوك المزدوج الاقتصادي المركزي منه والخاص، التي ظهرت داخل الحزب الشيوعي الصيني، باْستثناء تكويس التسمية للاْشتراكية بالخصائص الصينية.
والحزب الشيوعي الصيني العملاق، ليس حزبا ضعيفا كبقية الاحزاب في انحاء العالم، سواء بعدد اعضائه الهائل الذي يقدر بعشرات الملايين، او في قوة تاْثيره وسطوته في الحياة العامة، هو الحزب الضخم الذي يضم طبقات الشعب الصيني كلها، بل سمح لرجال الاعمال وكبار المستثمرين الانتساب اليه، حتى اغنى اغنيائها هم من اعضائه، وعموما لا يواجه الحزب مشكلة مع هؤلاء، فهم الاكثر طواعية له، والاكثر ادراكا لمصلحتهم في تاْمين جانبه من اجل تسهيل اعمالهم، هذا في مقابل احتراز الحزب على الطبقة الوسطى المدينية المتنامية، والسعي الدؤوب لديه لجعلها تركز على الرغبات الاستهلاكية، وعدم الذهاب بعيدا عند التطرف في السياسة، ومع هذا يتمسك الحزب بوجوده، وقد تعزز منذ وصول (شي جين بنغ) الى قيادته الاصرار على هيمنة الحزب على الدولة والجيش وعلى كل المنظمات القائمة في المجتمع، هذا مع التشديد في الوقت نفسه على ان الصين تعتمد في دستورها على مبداْ الديكتاتورية الشعبية الديمقراطية!.
مقارنة مع الحزب الشيوعي السوفيتي، لم تنشاْ في التاريخ الصيني ثنائية الحزب الشيوعي من جهة، والشرطة السرية، كما حدث في العهد الستاليني، الا ان الحزب السوفياتي كان الى حدٍ بعيد حزباَعمالياَ، قاعدته الاساسية من العمال الصناعيين، رغم الارتفاع المتزايد لنسبة الموظفين والمهندسين، حتى ان ستالين لم يكن مقتنعاَ كذلك الامر بشيوعية الحزب الصيني، لضعف قاعدته العمالية وثقل قاعدته الفلاحية، ثم ان هذا الحزب دار دورته كاملة وعاد اشبه ما يقود الصين نحو نهضة تحررية وطنية، تعيد توحيد البلد القارة، وتطلق عجلة الانتاج وتحقيق زيادة متواصلة في مستويات العيش، في راسمالية دولة مع فارق اساسي، وهو انه بالنسبة الى الحزب الشيوعي الصيني راسمالية الدولة هذه يلزمها حزب من طرازه، اي يلزمها تكوين مركزي هرمي تعبوي يدين بفكرة ذات طابع كوني: الاشتراكية.
في تنقيباته العميقة في الفكر الماركسي، ساهم الفيلسوف الفرنسي الماركسي (لويس التوسير) في طرح فكرة كانت مثيرة للجدل واساسية في فترة السبعينات، وهي ان ليس هناك عند ماركس ولا في الماركسية ما يمكن ان يدعى بين الراسمالية وبين الشيوعية، نمط انتاج اشتراكي قائم بذاته او بالتالي الاشتراكية بحد ذاتها هي انتقالية، وليس هناك ما يسمى بالانتقال نحو الاشتراكية،، ما بين ركام الافكار التي نسفها الانهيار السوفياتي بالنتيجة، ثمة، في ايضاح التوسير هذا مفتاح لمقاربة تجربة الصين تحت حكم هذا الحزب الشيوعي ليس انها في مرحلة انتقالية بين الراسمالية والشيوعية، بل انها تعيش نموذج راسمالية الدولة في اضخم اشكاله، كاْحد نموذجين اساسين تقوم عليه الراْسمالية في عصرنا، بلدان راسمالية الدولة، وبلدان راسمالية السوق.
نشرت جريدة ((وول ستريت جورنال) مؤخراَ مقالاَ عن حملة الرئيس الصيني (شي جين بينغ) الاخيرة ضد الشركات الخاصة بغية تاْكيد سيطرة الدولة على الاقتصاد وتوجيه الاموال بهدف تعزيز ايديولوجية الحزب الشيوعي، تشير الجريدة الى ان حملة الزعيم الصيني ترمي الى كبح جماح الشركات الخاصة في البلاد تاْتي ولدحر تطور الصين على مدى عقود نحو الراْسمالية على النمط الغربي في محاولة لوضع الصين على مسار مختلف، يحاول الزعيم الصيني اعادة الصين الى رؤية مؤسس الاشتراكية (ماو سي تونغ) الذي راْى الراسمالية على انها مرحلة انتقالية على طريق الاشتراكية.
يمكن الاستنتاج ان الصين في نموها الاقتصادي المذهل الذي يمثل نموذج استثناثي يجمع بين اشكال متناقضة، انها تعيش صراع قوانين يبدو ان تطور احدها ينفي الاّخر باْتجاه نوعاَ اخر لا هذا ولا ذاك، فكل الافاق مفتوحة امام التجربة الاِشتراكية ذات الخصائص الصينية.










