ستار كاووش
حين يُقيم فنان بأهمية أنسليم كيفر معرضه الآن في أمستردام، فهذا حدث فني وثقافي كبير، وخاصة أنه يُقام على قاعات متحف فان خوخ. وليس هذا فقط، بل أن كيفر قد إستلهم الكثير من أعمال فنسنت فان خوخ وتأثر بأعماله وإستعاد الكثير من تكويناته بطريقة فريدة وجديدة. هكذا توزعت أعمال هذا الفنان الواسعة التي تجازت حجوم بعضها العشرة أمتار، إستخدم في إنجازها الكثير من المواد التي بدت غير صالحة للرسم، لكنه وظفها بطريقة مدهشة وحساسية عالية وروح تواقة لإحداث تغييرات جوهرية في الفن. أتذكر حيف وقفتُ بوقت سابق أمام لوحاته في متحف هامبورغ في ألمانيا، حيث شعرتُ بأن لوحاته أكبر من أن تستوعبها قاعة أو حتى متحف. حينها حاولتُ أكثر من مرة مغافلة حراس المتحف وتمرير أصابعي على سطح إحدى لوحاته العملاقة، لأتعرف أكثر على المواد التي إستخدمها بهذه الطريقة ثورية.
يرسم كيفر لوحاته بطريقة موحشة جعلت الطبيعة مثل ساحة حرب أو حريق، وهو يتجول عادة خارج مرسمه الواسع ويجلب معه باقات كبيرة من الأعشاب واعواد النباتات والأحراش وأشياء أخرى مختلفة، ليجعلها لفائف وحبال يلصقها على لوحاته لإنجاز مناظره الطبيعية التي تحولت الى مدن مفتوحة غطتها الوحول وبعثرتها العواصف ونالها الخراب. يُنَفِّذُ كيفر لوحاته في قاعات كبيرة تكاد تكون بحجوم ملاعب كرة القدم، وهذا يُمَكِّنُهُ من أن يجوب بدراجته الهوائية بين اللوحات، حيث يتوقف عن العمل بهذه اللوحة لينتقل بالدراجة الى الطرف الآخر لقاعة الرسم حيث يبدأ بالعمل على سطوح لوحة جديدة، باحثاً عن حلولٍ غير تقليدية لمعالجة اللوحات، وإحداثِ ثورة حيث يستعمل كل شيء وأي شيء. فبعدَ أن يقوم كيفر بلصق المواد والأشياء التي يجلبها من الطبيعة، يسلط عليها بعض اللهب لتحترق وتتحول الى اشكال معتمة، ثم يرشقها بالماء فتتداخل التكوينات المتفحمة وتمتزج التفاصيل مع بعضها بطريقة غير متوقعة. وبعد يوم عمل شاق، يصحو في اليوم التالي وسط مرسمه الذي ينام فيه، ليهيء دلاء كبيرة مليئة بعجائن الألوان، يقوم بفرشها بكل خشونة على أجزاء كبيرة من لوحته، ثم يحضر آلة حادة ويخربش سطوح اللوحات. ولا يتوقف كيفر عند هذا الحد، بل يجلب ملابس حقيقية ويغمسها بالغراء والجبس ويلصقها علـى لوحته، وعند جفافها تصبح أكثر صلابة وتأثير، مثلما أرادها تماماً. وهكذا لا يتوقف كيفر عن إستخدام خامات غريبة وغير مألوفة، وهذا ما جعل لوحاته تبدو كأنها عوالم مفتوحة نحو آفاق مجهولة، ليست لها بداية ولا نهاية.
أشعر وأنا أتأمل لوحات هذا الفنان بأنه يعيش وسط أدوات الرسم والمتريال، حتى تحوَّلَ هو ذاته شيئاً فشيئاً الى جزء من العملية الفنية، وحتى ملابسه البسيطة التي بان عليها القدم، جعلته جزء لا يتجزأ من لوحاته التي إمتلأت بالكثير من الخامات التي قاده الحدس اليها حتى لو بدت غير متجانسة، لكنه يمزجها بطريقة مبتكرة ويحولها الى عالم فريد وجديد وغامض.
يستخدم كيفر ألواحاً سميكة وواسعة من الخشب كسطوح لتنفيذ لوحاته، وهو يبسطها غالباً على الأرض بعد أن يُثبت ويلصق عليها الكثير من الأشياء والتفاصيل، ثم يقوم بصهر بعض المعادن في دلو كبير، يقربه من اللوحة ويسكب المعدن الساخن على السطح، فتحترق وتتوهج اللوحة وتتغير بعض المفردات وتظهر بعض الحفر والشقوق والنتوءات وتتلوى الأشكال. ليقوم برفعها في اليوم التالي بواسطة عتلات خاصة، ويتحسس السطوح والحروق والتغيرات التي أحدثها البارحة، ثم يبتعد عشرين متراً، متأملاً لوحته من بعيد، ثم يقترب منها مرة أخرى بعدَ أن عرفَ كيف ستكون اللمسة القادمة.
أنسليم كيفر فنان اللوحات العاصفة ورجل المتريال ومبدع الخامات التي لم يجرؤ أحد على استخدامها. وهو لا يتردد بإستخدام كل ما يقع تحت يديه وهو يُشَيِّدُ لوحاته التي يعرف بأن بعض ألوانها وأشكالها ربما ستتغير مع مرور الزمن، لكن من المرجح أن هذا هو ما يريده فعلاً، لأنها بذلك ستبدو حية ومتجددة في كل مرة، والمهم هو أن أسطورته الفنية لا تتغير وستبقى ثابتة وتعيش الى الأبد.