إريك تشاني
ترجمة : عدوية الهلالي
بعد أن أثار دونالد ترامب الذعر في الأسواق بإعلانه عن زيادات كبيرة في الرسوم الجمركية، قرر أخيرا في التاسع من نيسان "إيقاف" الرسوم الجمركية الجديدة لمدة 90 يوما ــ باستثناء الصين (حيث ترتفع إلى 125%). ولا تتنبأ هذه الانعكاسات الأخيرة بما سيحدث بعد ذلك، ولكن هناك قضايا معينة بدأت تظهر وترسم صورة قاتمة للاقتصاد العالمي: فما هو التأثير الذي تخلفه الأسواق المالية تحت الضغوط على الحكومات والشركات والأسر؟ وكيف سيكون الوضع الاقتصادي على المدى القريب والمتوسط؟ وما الذي يعنيه التغيير في وضع الدولار، الذي أصبح وضعه كعملة احتياطية محل نزاع؟
لقد أرجأ الرئيس الأميركي تطبيق "الرسوم الجمركية المتبادلة" لمدة 90 يوما، ماأدى إلى خفض الرسوم الجمركية مع الاتحاد الأوروبي من 25% إلى 10%. ويُفسَّر هذا التراجع بالذعر الذي بدأ يظهر في سوق السندات، وبشكل أكثر تحديداً في سوق سندات الخزانة الأميركية..وفي حين تظاهر المقربون من دونالد ترامب بعدم الإعجاب بانخفاض أسواق الأسهم، أصيبوا بالذعر عندما هبطت سوق السندات أيضاً. ولكن تسليط الضوء على العبثية الصارخة لهذه القرارات العشوائية ليس كافيا: بل يتعين علينا أيضا أن نحاول توقع عواقبها على الاقتصادات والأسواق.ولقد كان لانهيار السوق تأثير مباشر على تمويل نحو 80% من الأسر الأميركية، وخاصة الأسر الأكثر ثراءً: فبالنسبة لأعلى 50% من أصحاب الدخل، يعتمد 43% من الثروة على أسواق الأسهم.
ومن الحرب التجارية التي بدأها دونالد ترامب، يمكننا أن نجازف بتذكر ثلاث نقاط، مع العلم أن كل شيء يمكن أن يتغير من ساعة إلى أخرى: قوة الأسواق المالية على القرار السياسي؛ تباطؤ الاقتصاد العالمي، بغض النظر عن نتائج حرب التعريفات الجمركية؛ والتساؤل حول وضع الدولار كعملة احتياطية - وليس مجرد عملة معاملات.
إن حالة عدم اليقين التي تثقل كاهل السياسة الاقتصادية الأميركية الآن، بما في ذلك شرعيتها، ورغبة الإدارة في استخدام كل الوسائل لخفض قيمة الدولار، بما في ذلك التعدي على استقلال بنك الاحتياطي الفيدرالي، من شأنها أن تقوض بشكل خطير المكانة المتميزة التي يتمتع بها الدولار كعملة احتياطية، أي مكانة الاستثمار المتميزة التي قدمتها سندات الخزانة الأميركية حتى الآن.فهل ينبغي لنا أن نكون سعداء بالنهاية المحتملة لما يسمى في كثير من الأحيان بالامتياز الباهظ للدولار؟على العكس تماما. في الواقع، لا يمكن لأي منطقة نقدية أخرى أن تقدم أصولاً تتمتع بخصائص سندات الخزانة. قد تكون السندات الفيدرالية الألمانية تتمتع بالثقة اللازمة للقيام بذلك، ولكن قيمتها المستحقة منخفضة للغاية وسيولتها غير كافية. إن السندات الحكومية الصينية غير قابلة للتداول في الأسواق الدولية بكميات كافية.
وبما أن استبدال سندات الخزانة الأميركية أمر صعب، فمن المرجح أن يظل الدولار العملة الاحتياطية الدولية في المستقبل المنظور، ولكن مع الشكوك حول مكانته فإن ذلك سيدفع المستثمرين إلى المطالبة بعلاوة مخاطرأعلى للاحتفاظ بها. ويعني هذا على وجه التحديد ارتفاع أسعار الفائدة على المدى الطويل، وليس فقط في الولايات المتحدة (لاحظ أن أسعار الفائدة في ألمانيا ارتفعت في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الفائدة في الولايات المتحدة أثناء أزمة السيولة).وفي حال ثبات كل الأمور الأخرى، فإن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى تقليص النمو الاقتصادي: والاقتصاد العالمي هو الذي سيعاني من الشكوك حول وضع الدولار.
إن رد فعل بكين على الأحداث الجارية لا يمكن أن يثير أي قدر من اليقين؛ ومن ناحية أخرى، من المناسب تبديد بعض الحقائق التقليدية. ومع ذلك، فإن التجربة تعلمنا أن بكين لا تستبعد بعض التعديلات البراجماتية. وفي عام 2001، طالب الرئيس المنتخب حديثاً جورج دبليو بوش بشدة بإعادة طائرة التجسس الأميركية التي أجبرت على الهبوط في جزيرة هاينان بعد اصطدامها بطائرة مقاتلة صينية، رافضاً الاعتذار الذي طالب به الرئيس جيانج تسه مين. وأخيرا، أعلن جيانج تسه مين، أثناء زيارته لأميركا الجنوبية: "عندما يحدث تصادم بين سائقين، يجب على كل منهما أن يعتذر"، وبالتالي حل الأزمة..والمثال الثاني: كان اتفاق الجمارك الأول بين الصين والولايات المتحدة، الذي تم توقيعه في كانون الثاني 2020،.ولم تقدم الولايات المتحدة أي التزامات، في حين قدمت الصين العديد من الالتزامات على الورق بموجب شروط الاتفاق نفسه. وفي الواقع، تخلت الولايات المتحدة ودونالد ترامب عن العديد من مطالبهما الأولية. وتعهدت الصين بشراء سلع أميركية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال عامين وضمان احترام حقوق الملكية الفكرية.ورغم أن احتمال إجراء مكالمة بين شي جين بينج ودونالد ترامب يظل ضئيلا، فإننا لا ينبغي لنا أن نقلل من قدرة بكين البراجماتية على إيجاد ترتيبات شكلية عندما تخدم هذه الترتيبات المصالح الصينية.
إذا تم تنفيذ التعريفات الجمركية بشكل صحيح، فإن الضرر الذي ستلحقه بالاقتصاد الصيني سيكون كبيرا للغاية، وخاصة بالنسبة للصناعات الصينية كثيفة العمالة.. إن ثلث نمو الصين يعتمد على الصادرات، ولكن في الواقع ربما يكون هذا الرقم أكبر من ذلك، نظراً لأن أرقام النمو المحلي مبالغ فيها.وفي حين لا ينبغي الاستهانة بالضربة التي تلقتها الصين، ورغم أن الفترة الحالية قد تشكل فرصة فريدة للمفوضية الأوروبية للتوصل إلى اتفاقيات، فإن بكين تظل شريكاً يجب النظر إليه بعين الريبة والشك.
وتدرك الصين أنها بحاجة إلى إيجاد أسواق بديلة وأنها لا تستطيع أن تذهب إلى أبعد من أداء التصدير الذي حققته بالفعل.. وقد يكون الوقت مناسبا لأوروبا لبدء مناقشات للحصول على فرص أفضل للوصول إلى السوق الصينية وخاصة إلى المناقصات والعقود العامة، في مقابل استيراد المركبات، مع الإشراف الدقيق على الاستثمارات الصينية باسم الأمن الاقتصادي (أكثر من اسم الأمن القومي في بعض القطاعات الاستراتيجية).ومن ثم يتعين علينا أن نتوقع انتشاراً كبيراً للحمائية في العالم، وهوما لن تتمكن مضاعفة أو تعزيز معاهدات التجارة الحرة الثنائية من تعويضه.
وتكمن الصعوبة كلها في أن الصين تعتمد على سيطرتها على الطرق غير المباشرة عبر بلدان ثالثة للالتفاف على الحواجز الجمركية. وفي الصين، تعد صناعة الخدمات اللوجستية لتحويل صادرات الإنتاج الزائد هائلة، من خلال وثائق مزورة أو طرق عبور. وفي غياب بنود المنشأ، فإن بعض الاتفاقيات الثنائية تشكل أحصنة طروادة حقيقية بالنسبة لبكين: مثل المعاهدة مع تركيا، أو المغرب، أو جنوب أفريقيا. ولحماية أنفسهم من إساءة استغلال التجارة الحرة، فإن القضية الأساسية بالنسبة للأوروبيين تتمثل في تحديد المكونات المتداولة عبر أسواق ثالثة. إن إنشاء آلية تعديل حدود الكربون من شأنه أيضاً أن يجعل من الممكن فرض ضرائب على محتوى الكربون في الواردات الصينية.
وعلاوة على ذلك، يتعين على المفوضية أن تتعامل مع العلاقة مع الصين في سياق الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، ولكن أيضا في سياق الحرب الروسية، التي تدعمها بكين تحت غطاء الحياد الزائف. ومع ذلك، إذا كان الاتحاد الأوروبي يريد الحصول على موقف أكثر تصالحية من الصين بشأن أي من القضيتين، فسوف يضطر إلى الموافقة على بعض التنازلات. ويبدو الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بالمسألة الروسية، التي تقع في قلب استراتيجية شي طويلة الأمد الرامية إلى إضعاف الغرب.وتؤثر الحرب التجارية أيضًا على الحرب في أوكرانيا. إن الانخفاض المذهل في أسعار النفط نتيجة لهذا، والذي قد يعوض، بالنسبة للناخبين الترامبيين، عن التضخم الناتج عن الحرب التجارية، هو خبر سيئ بالنسبة لبوتين: فقد أصبحت القدرة التنافسية لنفطه ضعيفة. لكن الأوروبيين يقولون إنهم مستعدون لاستيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال الأميركي مقابل التزام الولايات المتحدة بجانبهم على أراضيهم، في وقت لم يعد فيه ذلك مربحاً.










