أحمد حسن
في مقهى صغير وسط مدينة فلورنسا الإيطالية، اسمه "بابليوني"، شدني مشهد بسيط لكن عميق الدلالة: أكواب القهوة مصنوعة من فخار يدوي الطابع، تعيدك في لحظة إلى بابل، إلى العراق. صاحب المقهى، كما فهمت، مولع بحضارة وادي الرافدين، ويستلهم رموزها القديمة ليصنع تجربة معاصرة، أنيقة، وذات طابع إنساني حيّ.
كوب الفخار الذي تُقدَّم فيه قهوة الإسبريسو ذات الطعم والرائحة المنعشة، أشعرني أنه ليس مجرد إناء، بل سردية كاملة. إنه يحملك من فلورنسا إلى مدينة العمارة في ميسان، ومن الحاضر إلى فجر الكتابة، ومن رشفة قهوة إلى حضارة نُقشت حروفها الأولى على ألواح الطين.
لكن الغصّة كانت في المقارنة: لماذا نجد في فلورنسا وروما وباريس فناجين الفخار وأواني الخزف، بينما ينقرض الفخار من بغداد، ويُستبدل بالبلاستيك الرخيص حتى في بيوت الناس؟.
في العراق، لم تعد الكؤوس من فخار، ولا الأباريق من نحاس، ولا حتى استكانات الشاي تحمل طابع الهوية. البلاستيك غزا المقهى والبيت والمسجد والمضيف… صار كل شيء مؤقتًا، هشًّا، مستهلكًا، بلا روح.
والأدهى أن هذا الانهيار في الذوق العام يُلبَس لباس الواقعية، وكأن لا خيار لنا إلا الهروب من الماضي والذوق والحرفة، نحو الراحة والسرعة والرخص.
لكن الحقيقة أن هذا التحول لا يُعبّر فقط عن ذائقة جديدة، بل عن فقر أعمق من الفقر المادي… فقر ثقافي، فقر في العلاقة مع الأرض. أليس الطين هو ما خُلقنا منه؟ ما كُتبت به ألواح الوحي الأولى؟ كيف نفرّ من مادة الخلق الأولى إلى مادة الهلاك الأخيرة؟ البلاستيك، هذه المادة التي لا تتحلل، صارت تُحلّل أذواقنا بهدوء.
في الهند، تُستخدم أكواب الورق في بعض الأحياء الفقيرة، لكنها ليست دائمًا دليل بؤس. أحيانًا تكون فعلًا دينيًا يُعبّر عن تقشّف اختياري، عن خضوع رمزي للرب، عن بساطة روحانية. أما في العراق، فإن انتشار الكوب البلاستيكي لا يحمل أي بُعد رمزي أو ديني، بل هو أقرب إلى جلد الذات: قبول بالرداءة، تصالح مع القبح، وتخلٍّ طوعي عن إرث طويل من الحرفة والجمال.
لكن في الصين، لا يزال الصينيون يستخدمون الكؤوس الفاخرة في الأكل والشرب؛ لأنها تمثل روحًا حقيقية، وتمنح النفس شهيّة للطعام، وتبعث على القناعة والراحة النفسية، وتُشعر الإنسان بهويته وفرادته التي تميّزه عن باقي الكائنات.
إن استخدام أكواب البلاستيك والورق ليس للبشر، وإنما يُستخدم في الغالب للحيوانات المتوحشة في المحميات. بل حتى العديد من الدول لم تعد تستخدم البلاستيك في طعام الحيوانات، لأنه لا يُمثّل هوية الحيوان الذي يعيش في البرّ والغابة.
تذكّرت مقاهي بغداد القديمة، تلك التي كانت تقدّم الشاي باستكان صغير على صينية من النحاس، حيث لا يُفكّر في الفخار كمجرد وعاء، بل كجزء من الحوار والهوية. أين ذهبت تلك التفاصيل التي كانت تمنحنا شعور الانتماء من دون أن تكلّفنا شيئًا؟.
وربما السؤال الأصعب ليس: لماذا انقرض كوب الفخار؟ بل: لماذا لم نعد نلاحظ غيابه؟ متى أصبح البلاستيك هو القاعدة لا الاستثناء؟. التحوّل من الفخار إلى البلاستيك ليس فقط في الأكواب، بل في النفوس: من الثبات إلى المؤقت، من العمق إلى السطح، من الهوية إلى القشرة.
العراق، الذي علّم البشرية كيف تكتب على الطين، لم يعد يصنع به حتى استكانات الشاي. أرض الطين أصبحت بلا فخار. والحرفيون الذين ظلوا لمئات السنين يصنعون الفخار، انقرضوا أو هُجّروا أو همّشتهم السوق الحديثة.
جيل اليوم يرى الفخار قطعة ديكور، لا أداة حياة. لا يعرفون طعم الماء في كوب فخار، ولا حرارة الشاي في استكان زجاجي صغير. كل شيء صار يُشرب بلا لون، بلا ملمس، بلا ذاكرة.
صاحب مقهى "بابليوني" في باريس، بغير قصد، أعاد تذكيري ببغداد أكثر مما تفعل بغداد نفسها. بينما نحن نتنكّر لتاريخنا، يعيد الغرب ابتكار رموزه، ويمنحها حياة جديدة.
مقاهي إيطاليا، التي زرتها مؤخرًا، تفخر بفناجينها الخزفية، بزخارفها الريفية، بتقاليدها البسيطة. هناك، حتى الكوب يُعبّر عن انتماء. أما نحن، فصرنا غرباء في مطبخنا، في مجلسنا، في شاي الصباح.
كوب الفخار ليس فقط أجمل وأصدق، بل أيضًا أكثر صحة للإنسان وبيئته، بخلاف البلاستيك الذي يتسرّب إلى الشاي والماء، ويحوّل كل لحظة دفء إلى خطر صامت. ربما حان الوقت لنفكر بكوب الفخار، لا كوعاء شرب، بل كمرآة ثقافية. هل نريد فعلًا أن نكون أمة بلا فخار؟ بلا ذائقة؟.
إن كوب الفخار قد يكون مفتاحًا لفهم الانهيار الأوسع: انهيار الذوق، الحرفة، الحنين، والانتماء.فلنعد إلى ما يُشبهنا… إلى ما يُشرب باليد لا بالعادة، ويُحسّ بالرائحة لا بالوظيفة. فليعد كوب الفخار إلى موائدنا. ليس فقط لأنه أجمل، بل لأنه أصدق.










