المدى/أيّوب سعد
من بين أزقة مخيم عين الحلوى المكتظة، خرج صوت خجول لمراهق يهوى الغناء على أسطح المباني، في مدينة صيدا التي كانت تمور بتناقضاتها السياسية والدينية والاجتماعية. لم يكن أحد ليتخيل أن ذلك الشاب، الذي عُرف بين أقرانه بولعه بالحب والطرب، سيغدو لاحقاً مادة للجدل، تتقاطع حوله السياسة والدين والفن والإعلام، وتتحول حياته إلى سردية متداخلة من الرومانسية والعنف والتوبة والتمرد.
وفقًا للوثائقي الذي بثته منصة "شاهد"، بدأ فضل شاكر حياته في بيئة فقيرة، لكن دافئة. منذ صغره، ارتبط اسمه بالعاطفة والحب، ليس فقط في الأغاني التي قدّمها، بل في مسيرته الشخصية أيضاً، حيث شكلت قصة حبه لزوجته “نادية” محركاً عاطفياً هامًا في صعوده الاجتماعي.
بكلمات بسيطة، يروي الوثائقي كيف قدّم له بعض الأصدقاء والناس مساعدات مالية ليتزوج نادية، ولم ينس فضل لاحقًا أن يرد لهم هذا الجميل حين تحسنت أوضاعه المادية.
على سطوح صيدا كما يصف الوثائقي، كان فضل يُغني لسعاد حسني وعبد الحليم حافظ، محاولاً أن يجد لنفسه مقاماً في عالم الطرب. في تلك الفترة، كان الحب لا يفترق عن الفن، وكانت شخصية فضل تتشكل على نحو أقرب إلى صورة "العاشق الحالم"، البعيد عن السياسة والعنف.
لكن المشهد تغيّر تمامًا بعد العام 2011
في خضم الانقسام السياسي والمذهبي الذي اجتاح لبنان مع تصاعد الثورة السورية، ظهر فضل شاكر إلى جانب الشيخ أحمد الأسير في تسجيلات مصورة تدعو إلى الجهاد. بدا وكأنه انقلب على نفسه، وتحوّل من "المغني الرومانسي"، إلى "الأخ المجاهد"، كما وصف نفسه.
أحداث عبرا (2013) كانت نقطة الانفجار. قُتل فيها عدد من الجنود اللبنانيين، واتُهم شاكر بالمشاركة فيها. الوثائقي يطرح هذا السؤال بوضوح: هل كان فضل شاكر موجودًا داخل المبنى أثناء الاشتباك؟
في المقابلات المصورة، ينفي شاكر مشاركته في القتال، ويؤكد أنه انسحب قبل اندلاع المواجهة. لكنه يعترف بحمل السلاح. هذا التضارب بين النفي الجزئي والاعتراف الجزئي ترك مساحات واسعة من الشك، غذّتها تقارير إعلامية متضاربة، وأحكام قضائية غيابية.
ولم يكن الإعلام اللبناني والعربي ليرحم فضل شاكر. تحوّل من نجم محبوب إلى "خائن"، بحسب بعض التوصيفات. الفنانون أيضاً انقسموا، بعضهم دعاه للعودة والتوبة، بينما أعلن آخرون البراءة منه. وفي الوثائقي، يبدو أن فضل شاكر يتحدث عن كل هؤلاء، بحسرة أحيانًا، وبغضب أحيانًا أخرى.
واحدة من أبرز اللحظات في الوثائقي هي حين يبدأ شاكر بسرد كيف عاد ليرد المال لكل من ساعده في زواجه، وكأنما يحاول تسوية ملفات الماضي، ليس فقط المالية، بل الأخلاقية أيضًا. ندم؟ اعتراف؟ مناورة؟ تبقى هذه الأسئلة معلقة، خاصة وأن القضاء اللبناني لم يغلق ملفه بعد.
الصوت الذي لم يغب
رغم كل شيء، ظل صوته حاضرًا، أغنياته لا تزال تُتداول، وإنْ بهدوء، وصورته لا تزال تُثير الانقسام، لا بسبب صوته، بل بسبب سيرة امتزج فيها الحب والمقاومة والمأساة.
في النهاية، فضل شاكر ليس مجرد فنان اختفى، هو ظاهرة اجتماعية وسياسية، اختزلت لبنان ما بعد 2005: هشاشة الهوية، تقاطع الطوائف، الإعلام كسلاح، والناس الذين يحبون بسرعة، ويكرهون بسرعة أكبر.