محمد علي الحيدري
في خضم اشتداد التنافس الدولي وتزايد التحديات الجيوسياسية، يبدو أن الخطر الأشد الذي يواجه الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب لا يتجسد في خصوم خارجيين، بل في تصدع داخلي متنامٍ يتمثل في الاستقطاب الحاد الذي يطال المجتمعات ومؤسسات الحكم. هذا الاستقطاب، الذي تجاوز كونه تباينًا طبيعيًا في الرؤى السياسية إلى انقسام عميق في القيم والهويات، بات يشكل تهديدًا فعليًا لاستقرار الدول الغربية وأمنها القومي.
في الولايات المتحدة، تدهورت الثقة بين مكونات الطيف السياسي إلى مستويات غير مسبوقة، ما انعكس مباشرة على فاعلية الحكم واتخاذ القرار. لاري دايموند، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، يشير إلى أن "معايير الديمقراطية الخاصة بضبط النفس ونبذ العنف تتفكك الآن في الولايات المتحدة"، في تحذير صريح من أن الانقسام الحزبي لم يعد خلافًا في السياسات، بل تحول إلى رفض وجودي للآخر، وهو ما يؤثر على جوهر النظام الديمقراطي ذاته، بحسب ما نقلته صحيفة ذا أتلانتيك في تقرير موسع حول هشاشة الديمقراطيات الغربية.
هذا التصدع الداخلي له تداعيات مباشرة على السياسة الخارجية، حيث لم تعد المواقف الاستراتيجية الأمريكية تُبنى على أساس مؤسساتي مستقر، بل باتت أسيرة التقلبات الحزبية. ففي عهد أوباما، اتسمت السياسة تجاه روسيا بالتشدد، لكن إدارة ترامب انقلبت على هذا النهج، وأبدى الرئيس السابق تقاربًا غير مسبوق مع موسكو، قبل أن تعود إدارة بايدن إلى خط المواجهة. هذا التذبذب في المواقف، كما ورد في تقرير لمؤسسة بروكنغز، أضعف المصداقية الأمريكية وأثر على وحدة الموقف الغربي، خاصة في ملفات حساسة مثل أوكرانيا.
في أوروبا، تبدو صورة الانقسام مشابهة، وإن اختلفت التفاصيل. صعود التيارات اليمينية المتطرفة، المدفوعة بالغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية والهجرة، زاد من هشاشة المشهد السياسي. صحيفة لو موند الفرنسية نقلت في تحقيق حديث أن نسبة الثقة في الأحزاب التقليدية في فرنسا وألمانيا تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما أتاح مساحة أوسع لحركات متشددة تسعى إلى تقويض التوافق الأوروبي.
الهجرة بدورها أصبحت نقطة اشتعال إضافية. تقرير مركز بيو للأبحاث أظهر أن 60% من الجمهوريين الأمريكيين يعتبرون المهاجرين تهديدًا مباشرًا لـ"القيم الأمريكية"، مقابل 15% فقط من الديمقراطيين يتبنون الرأي ذاته. هذا الاستقطاب لا يؤثر فقط على السياسة العامة، بل يهدد السلم الأهلي، ويعوق إمكانية التوصل إلى سياسات مستدامة في ملف حيوي يشهد ضغوطًا متزايدة.
في السياق ذاته، بات الاستقطاب ثغرة أمنية تستغلها القوى المنافسة. تقرير حديث صادر عن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في فبراير 2025 أكد أن روسيا والصين كثفتا من استثماراتهما في حملات التأثير الرقمي، مستهدفتين تعميق الانقسامات المجتمعية في الغرب، عبر حملات تضليل ممنهجة تهدف إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات وتغذية الشكوك حول جدوى الديمقراطية.
هذه التطورات دفعت مراكز التفكير الاستراتيجي إلى دق ناقوس الخطر. مؤسسة راند كوربوريشن حذرت في تقرير لها نهاية 2024 من أن "الاستقطاب المزمن يُفضي إلى شلل مؤسساتي وتآكل في الثقة المجتمعية، ما يُضعف قدرة الغرب على الردع ويجعله أكثر عرضة للابتزاز السياسي والتحديات الأمنية". الخطر لم يعد نظريًا. الغرب يواجه تحديًا داخليًا متصاعدًا، يهدد بتقويض مقومات قوته من الداخل، ما لم تتم معالجة الانقسام بحكمة وشجاعة سياسية. فالحروب الكبرى تبدأ أحيانًا من شرخ داخلي… لا من حدود العدو.










