زهير الجزائري
(5)
نفير عام!
لم نسمع الصوت الأجشّ البارد الذي أمر المدافع بأن تدوّي، ولم نرَ الفارس الذي قطع السهوب لينذرنا: نفير عام! النذير استحال إلى رسائل مشفّرة تخرج من أجهزة الإرسال، تمر عبر الأثير فتدخل نوافذنا دون أن تنقر الزجاج أو تزيح الستائر، ومن دون أن تكسر عادات البيت المستغفل بحيّل الحياة. مأثرة الحرب الجديدة هي المباغتة وسر انتصارها هو أن تأخذ الحياة على غفلة.
تعثرت الكلمات بين المتفاوضين فبدأت المدافع تقول كلمتها. في غرفة القرار تقلصت الجمل إلى مبتدأ وخبر، فاعل ومفعول به. جمل آمرة لأجساد مهيأة للتنفيذ. استيقظت فجراً على هدير زلزال متصل، قصف لا مثيل له، زَحفَ بتسارع ودأب من خطوط التماس نحو منطقتنا. قصف هذا اليوم كان مختلفاً تماماً.. لا انقطاع فيه بين القذيفة و الثانية، إنما كانت الانفجارات متصلة. قبل أن يتلاشى عصف القذيفة، تدبٌّ القذيفة الثانية، فيصعد صوتها من الأرض كموجة اهتزاز ترتفع الينا عبر عظام الجسد.
في المرات السابقة كنّا نعرف أية بناية أصيبت، ونتصور صراخ الأطفال، والنسوة الهلعات خرجن الى الشارع من قلب الحريق.. هذه المرّة شلّت القذائف خيالنا بايقاع متصل. القصف العشوائي لا يستهدف أحداً بالتحديد، أي إنه يستهدف الجميع. وهو القصف الأمثل لتحويل الحياة إلى محض مصادفة. قذيفة تسقط هنا وقذيفة هناك وعلى الخيال أن يردم الفجوة بين قذيفتين وبين قتيلين..لا مجال للإفلات، فالموت ماثل في كل لحظة وفي كل بقعة.الحياة نفسها مستهدفة بالقصف العشوائي.
قصف عشوائي
القذائف تزحف بإصرار نحو منطقتنا.في حرب القذائف العشوائية لا يموت الأبطال المنذورون للحرب، إنما الهاربون منها. من حرصهم الملحّ على الحياة وهروبهم المضطرب من ويلات الحروب، يعرّضون أنفسهم للشظايا التي تفرم الهواء باحثة عن اللحم الآدمي.
الصيدلي المهووس بتنظيم كل ما حوله رتب كل شيء للهروب إلى الجبل الآمن. بدقّة بالغة عبأ في الحقائب كل ما يحتاجه هارب من بيته. ملابس لشتاء قريب، له ولزوجته وأطفاله، شفرات حلاقة ومعاجين أسنان، حبوب مهدئة، معلبات، لم ينس الراديو والمصباح اليدوي، فيتامينات وأجهزة لقياس الضغط والحرارة، البومات صور العائلة وجوازات السفر استعداداً للهروب من هذا البلد المنحوس. بين فترة واخرى وهو على عجل يتوقف ويسأل نفسه وزوجته: هل نسيت شيئاً؟… آه، المكواة و فتّاحة العلب… حشر الحقائب وعائلته في السيارة وهو يصرخ مربكاً نفسه وعائلته بحركات لا ضرورة لها غير تبديد الخوف. قبل ان يقلع تذكر: المفتاح؟! دخل البيت ليبحث على عجل، ولكن بما يكفي لكي يسمع الانفجار عند باب البيت. عندما خرج وهو يترنح من هزة الانفجار لم يجد ما يفتحه. ففي مكان السيارة تويج أسود يحترق. كانت هذه مصادفة عمياء. رامي القذائف العشوائية لم يتقصده بالذات، لأنه محارب لاهٍ يجهل نتائج أفعاله.لا يحتاج الشجاعة أو البراعة، إنما عمى المخيّلة وصلابة القلب لرجل لا يعرف سوى التعامل مع الحديد. يطبّق خارطة الاحداثيات، وهي ورق، على لوحة التسديد، وأمامه في الوادي الذي يغيب تحت فوهة المدفع في غمامة تلغي التفاصيل الحيّة. لن يرى المدرسة الضّاجّة بصراخ الأطفال ومعلماتهم، ولا بحيرة الماء التي تعكس وجه الشيخ الذي يتوضأ، ولا العاشقة المتمنّعة في شرفة أمام عاشقها. في دخيلته الملبدة قد، أكرر قد، تمر صور: شظايا زجاج أفلت من نافذة وعكس وهو يتطاير صور الدمار الذي أحدثته قذيفته، نار الحريق الذي يلتهم السيارات على جانبيّ الشارع، سيارات اسعاف لا تتوقف وهي تروح وترجع ناقلة الجرحى الذين سيموتون في الطريق الى المستشفيات وقد هدَّ الجهد كادرها الطبي فناموا مع جرحاهم في الممر… ما همّ ذلك؟ الحرب هي الحرب! المهم المساحة كما مثبتة في الاحداثيات. عليها سيركّز، بينما تتحرك يداه بين السبطانة وإبرة التفجير وانزلاق القذيفة… ثم سيضيع كل شيء في عصف مدوّخ يطيّر الأوراق من أغصانها، والثياب من حبالها ويرجّ المكان والمخيلة.
هدوء حذر
فجأة توقف القصف. بضع رصاصات ساخطة ثم حل هدوء غريب ومشكوك في صدقه. مددت رأسي على حذر لأرى الشارع الذي غادرناه. خال تماما من المارة بعد زخة القذائف العشوائية. انقطع المتجوّلون في الشارع كأنهم مسحوا بممحاة قاسية. الباقون يعبرون على عجل لصقاً بالحيطان ثم يختفون مثل كائنات عجولة في مدينة استوطنها الطاعون. النساء البلاستيكيات بملابس النوم الشفافة اختفين من الواجهة الزجاجية. حرّاس المقرات الذين يشتهون النساء البلاستيكيات أختفوا في مداخل البنايات.اختفت الزهور خلف أكياس الرمل. في مكانها خُطَّتْ على عجل، وبحبر أسود (هنا تباع الزهور) كأنها شاهدة على قبر. من وراء أكياس الرمل يتسرب الصوت الذبيح للمغنيّة الفرنسية (ميرال ماتيو) مثل نداء استغاثة من حضارة توشك ان تلفظ أنفاسها تحت اكياس الرمل.
-هذا مجرد تمرين
قال (العليم) بالأخبار التي لا تذاع. يترك غراب البين الأصلع هذا ما نحن فيه ويعِدَنا دائما بالمزيد. الموت وحده يدبّ في الشارع مثل شيخ الجامع الأعمى النحيل الذي يطرق الأسفلت وبعكازته ويطرق أسماعنا بصوته الأجشّ:
-تهربون من المقسوم؟ أين تهربون من غضب الله؟
من أين لنا إيمانه بالآخرة، وقد ختمت الحياة الحاضرة كل خيالنا. الله بسيط وحاضر أمامنا. لا حاجةً لأسئلة كبيرة عن مقامه وشكله. إنه موجود في الحياة المتاحة لنا.. في هذه السماء الزرقاء الواضحة البسيطة، وهي خيمتنا الأبدية. كيف نسيناها في الملجأ، في شجرة الكاليبتوس النحيلة الراسخة عند باب العمارة في ألوان الخضار عند البائع الذي فتح دكانه تواً… نرى الله في كل ما نراه بامتنان صامت.
نخرج من سراديبنا إلى الحياة فنكتشف أن السماء ترفل بأشكال لا تحد من النجوم، ويحل هدوء لا مثيل له حتى ليخيل اليك إنك تسمع صوت الكلمات التي لم تقل بعد. كل أجزاء الجسد أصبحت عيوناً تحوّل الأصوات إلى صور.
يخرج أوائل الناس متسللين من مخابئهم ليسرقوا شيئاً من حياة ما عادت لهم. رويداً رويداً يجذب الناس أُناساً آخرين.. هكذا تدب الحياة الحذرة في الشارع حركة بطيئة هادئة كأنهم في نزهة على كوكب يجهلونه. لا يبالون بشرفتهم المبتورة وزجاج نوافذهم المحطم ورائحة البارود في فراشهم وسيارات الإسعاف لا تكفّ عن الزعيق ذهاباً وإيابًا. أصوات الانفجارات البعيدة تجعلهم يرمشون قليلاً ويزدادون التصاقاً ببعضهم، شيئاً فشيئاً يتعبون من خوفهم. يتعرفون على انفسهم ويبتسمون بفرح لأن من ماتوا ليسوا هم، وما تهدم ليس بيتهم!
بعد ذاك الهدير المرعب وأزيز الشظايا التي قطعت الهواء، والرصاص الذي ثقب كل شيء، حلّ صمت مميز لا مثيل له، صمت تسمعه وتميزه كشيء كثيف. تتكون الأشياء أمامك كما لو انها تولد الآن. تفاجئك الشجرة التي بقيت أعواماً أمام بيتك وتكاد تضحك من شكل الحنفية الغريب، وقطرات الماء المتساقطة منها. بدهشة تراقب وجه رفيقك: ثمة تجاعيد و تغضنات ما رأيتها من قبل فيه، يا لسمرته وشحوب وجهه وتوتر أعصابه! أبسط ما في الحياة وأكثر ما فيها تقشفاً يمنح لك في هذه الهدنة القصيرة كهدية ثمينة. الناس يتمسكون بهذه الهدنة المؤقتة ويحل عليهم وهم الأمان، يقولون لأنفسهم ربما فعل العقل فعله، وثاب المقاتلون الى رشدهم، وينسون أن في زاوية من زوايا هذا الأمان عيناً تترصد خلف الناظور وإصبعاً قلقاً على الزناد بانتظار الرصاصة التي ستقول لهم: أخفق الحوار، فلتبدأ المدافع!
مامن طرف بعد هذه الجولة، أعلن انتصاره.وحتى لو انتصر، لن يعيد الشرعية المفقودة، ولن تتدخل الدولة لتوقف هذا الانتحار الجماعي، لأنها لم تعد تحتكر العنف. جيش الدولة نفسه انقسم إلى ثلاثة جيوش:(جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حدّاد تحالف مع إسرائيل، جيش لبنان العربي بقيادة أحمد الخطيب انحاز للقوات المشتركة للحركة الوطنية والفلسطينيين.، فشل "كميل شمعون" في إقناع قائد الجيش الرسمي "فؤاد شهاب" بمواجهة الحركة الوطنية والفلسطينيين. وقبل ذلك وفي خضم الحرب الأهلية قام العميد عزيز الأحدب بانقلاب مناصر للفلسطينيين في 11 آذار- مارس 1976). لقد توزع جيش الشرعية على القوى المتحاربة فلم تعد شرعية الدولة مطروحة كحل. وبعد خصخصة عنف الدولة لم يعد هناك من سلام دائم بإرادة الأطراف الداخلية، إنما جولات حرب متقطعة تتخللها هدنات هشة هي في الغالب نتاج ضغوط خارجية.
أمشي بخطوات سريعة نحو المقهى القريب. النقاشات حادة وسط غيمة من سكاير كلواز. الحرب حركت الكوادر الحزبية، بعضهم يدخل مع رشاشته وعتاده الكامل. البديهيات العقائدية ومفرداتها صارت موضوعا للتنكيت. أتسمّع للنقاشات وكأن الكلمات أفعال ستقرر مصير حياتي. في سوق الخضروات القريب من(صبرا) اتسوق على عجل لأن البائع يحثني:
-فشلت المفاوضات، سيستأنف القصف.
الراديوات المحمولة، وقد تكاثرت الإذاعات بتكاثر الفصائل، تخبر الناس بالمخاطر قبل وقوعها. لا أحد يعدَهم بالسلام. مع ذلك يسير الناس بعيداً مع هذا الأمان المؤقت ويغرقون في وهمه لأنهم تعبوا من وطأة الحرب. يتمسكون بهذه الهدنة بأسنانهم بقوة وحرص متشنج. تفزعهم أية رصاصة طائشة قد تكسر زجاج الصمت الهش. أحياناً يصبح الصمت شديد الرهافة، مقلقاً، لابد أن خلفه ما هو أسوأ.
في هذا الهدوء الحذر خرجت الى الشرفة فصدمتني رائحة البارود العالقة في الهواء، أسمع أخبار لندن عن بيروت التي تحترق حولي، وأسمع صوت أول طائرة تهبط في مطار بيروت الذي قصف ليومين، ومن الشرفة رأيت الحارس يذرع الشارع ذهاباً و اياباً، وهو يصفر بقلق، ورأيت الناس فرادى يسيرون بخطوات قصيرة مرتبكة نحو بائع الخضار الذي فتح دكانه حتى النصف. أية هدنة هذه؟! كنت أعرف ان للحرب تضاريسها، والهدوء المؤقت فيها جزء من لعبة النزيف العام، لكسر ديناميكية القتال لحظات تصبح فيها الحياة ثمينة تستحق التضحية من أجلها بالأهداف والمبادئ. الهدوء الحذر هو تهديد وخيار ذو كفتين في واحدة منها حياتك الحافلة بالمسرات والمتع الصغيرة، ولكن من دون الأهداف الكبيرة التي قاتلت من أجلها، وفي الكفة الاخرى الموت المقرون بالمبادئ.
في هذا الهدوء الحذر جاءني شوقي وهو متأهب ليعرض عليّ مفاجأته في شكل حقيبة دبلوماسية، فتحها ليعرض عليّ صفاً من مسدسات، بعض منها ببكرة تشبه مسدسات رعاة البقر الأمريكيين، وبعضها مزيج من الفضة والذهب. مسدسات توسدت بدِعة في بطانة من القطيفة الحمراء. صوته وهو يغريني أقرب لهمسات قوّاد صبور:
-صدقني ستحتاجه. مامن صديق أوفى منه!
وضعه في راحة يدي، وتركه حتى آلف وجوده في راحة يدي وجرّ معه ابتسامته وهو ينسحب واثقاً من أني سأشتريه. السلاح بوجوده العاري مغرٍ مثل امرأة عريانة في سريرك، ما أن تلمسه حتى يستدعي الفعالية حتى نهايتها، عضلة واحدة تمتد من الدماغ وقد وجد طريدته حتى الإصبع الملتف على الزناد. العدو جاهز وقريب في الجهة الأخرى من الشارع. السبب الذي يستدعي الضغط على الزناد جاهز أيضًا (عدو)، سيقتلني إذا لم أقتله. الخوف يستدعي الهجوم.
* امتدت الحرب الأهلية اللبنانية من 13 نيسان (إبريل) 1975 حتى 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990. وكانت بداية النهاية لتلك الحرب عبر "اتفاق الطائف" في 30 أيلول (سبتمبر) 1989 والذي وقع عليه النواب اللبنانيون خلال اجتماعهم في مدينة الطائف بالسعودية برعاية أميركية سعودية سورية، قبل أن يصادق عليه مجلس النواب في جلسة الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 ويتحول إلى دستور.