المدى/أيّوب سعد
من بين الأسماء التي رسخت في ذاكرة العراقيين صوتاً وشكلاً وإحساساً، يبرز اسم مهند محسن، فنان انطلق من عبق الزمن العراقي ما قبل 2003، حين كان الغناء يحتل مكانة متقدمة في وجدان الناس، وكان المهرجان والعرس والحفلة تنبض بروح العراق. موهبة تفجرت منذ الطفولة، وغنّى حيث لا يُغنّى إلا للكبار: في مهرجانات بابل، وأرقى مسارح بغداد، ثم انطفأ فجأة، أو لنقل، أجبرته الهجرة إلى أوروبا على التواري، وتواضعٌ مفرط دفن صوته، لا موهبته.
ورغم الغياب، ظل اسمه يتردد في الذاكرة: مهند، الذي علمنا كيف نحب ونغار ونتألم، وكيف نعشق العراق بصوته.
مهند محسن لم يكن فناناً صُنع في استوديو، هو فنان تشكل في الزقاق والمدرسة والساحة الشعبية، حيث الموهبة وحدها كانت الجواز للدخول إلى عالم الغناء. لمع اسمه سريعاً في تسعينات القرن الماضي، حين بدأت ملامح فنان مختلف تظهر: نبرة رخيمة، أداء يحمل حساً تمثيلياً واضحاً، وحضور على المسرح يشبه كبار النجوم.
لم يكن تلميذاً لأحد، لكنه تعلم من الجميع، ووقف في أصعب الأماكن وأشهرها، خصوصاً مهرجان بابل الدولي الذي كان آنذاك بوابة النجومية.
بعد 2003، غادر مهند محسن العراق ككثير من الفنانين الذين ضاق بهم الوطن، رحل إلى أوروبا، وهناك لم يسعَ إلى المجد الفني، بل غلب عليه الحذر والتواضع، وربما التراجع المقصود عن الضوء. هذا التواضع، برغم نبله، أسهم في تآكل حضوره الإعلامي والفني، حتى بدا كأنه قرر الاعتزال بصمت، في سنوات الغياب، ظل حضوره في وجدان العراقيين من خلال أغانيه التي ما تزال تُبث وتُطلب في الإذاعات، وأبرزها:
“مشتاق أطير وي الهوى" الأغنية التي أصبحت مرادفاً للحنين العراقي، وأيقونة وجدانية رافقت جيلين على الأقل.
في رصيده أعمال لا تُنسى، ليس فقط من حيث الألحان، بل من حيث صياغة المشاعر: في أغنية "ما تقدر تحب غيري"، يغني بلسان كل من أحب بصدق، وراهن على قلب الحبيب بكل ما فيه، صوت فيه شيء من التحدي، شيء من الثقة الممزوجة بقلق: "قلبك بعده معاي، لو تقدر على فراقي روح واعشق من وراي؟”
هو لا يسأل ليعرف، بل ليؤكد لنفسه أن الحب ما زال له وحده، وكأن هذه الكلمات تنبع من عاشق على حافة الانكسار، لكنه ما زال متمسكاً بالكرامة.
ثم تأتي "كولولي وين ألكاه سلطان قلبي ما قدر على فرقاه”! هنا يدخل مهند محسن في أعمق زوايا الوجع، سلطان القلب لا يُهزم، لكن أمام الفراق، يضعف، الأغنية ليست فقط عن الحبيب، بل عن الحيرة، عن التوهان، عن الشوق الذي لا يُحتمل.
في هذه الأغاني، لا يقدم مهند حكايات عابرة، بل يبني عالماً شعرياً حسيّاً، نجد أنفسنا فيه حين نضيع منّا، حين نشتاق حدّ الذوبان، حين يصبح العيش من دون من نحب، ضيقاً كالقبر.
أما عن أيقونة :"رغمًا على روحي ابتعد عنك واهيج جروحي"، يعبر هنا عن صراع داخلي مرير، إذ يضطر للابتعاد عن محبوبه رغم أن قلبه وروحه يرفضان هذا القرار. الكلمة "رغمًا"، تشير إلى أن الابتعاد ليس قرارًا اختياريًا، بل فرضته الظروف أو الألم الذي يعيشه الشخص.
الجملة "واهيج جروحي" تضيف طبقة أخرى من الحزن، حيث يشير إلى أن كل لحظة ابتعاد تزيد من جروحه الداخلية، وتفتح جراحًا قد تكون قديمة أو جديدة. الكلمة "تهيج" تعكس أن هذه الجروح تزداد اشتعالًا مع كل لحظة بعيدة عن الحبيب، مما يخلق حالة من المعاناة العاطفية المستمرة.
أغاني مهند ليست مجرد موسيقى، إنها دفتر العاشقين، والأنين الذي لا يُقال، يُغنّى فقط.
في السنوات الأخيرة، عاد مهند محسن إلى بغداد. ظهر في حفلات محدودة، وبدأ بطرح أغاني جديدة، ضمن ألبوم حديث حمل في طياته محاولات للتماهي مع الذوق الغنائي الحالي، من بين أبرز هذه الأغاني: "لا تنتظرني" و"أتحداك"، وغيرها، عودته لم تكن مدوية، لكنها كانت هادئة ومحسوبة، كأنه يحاول جس نبض الجمهور، أو كأن شيئاً ما يمنعه من الانفجار مجدداً.
مهند بحاجة إلى صوت إنتاجي لا يقل عنه نضجاً: رغم هذه العودة، لا يزال مهند محسن بعيداً عن الضوء الذي يليق به، يبدو أنه بحاجة إلى مؤسسة إنتاجية تؤمن بصوته ومشروعه، تعيد تسويقه بلغة العصر، دون أن تفرط في خصوصيته الفنية. مهند ليس فناناً عادياً، هو "براند" غنائي عراقي بحاجة إلى من يعيد تقديمه بذكاء، ويصوغ له مشروعاً يمتد لسنوات قادمة.
مهند محسن ليس مجرد مغنٍ سابق، هو جزء من التكوين العاطفي لجيل عراقي كامل، حمل صوته في ذاكرته كما يحمل رائحة الوطن، وربما آن الأوان أن يُعاد الاعتبار لهذه القامة الفنية، ليس فقط تكريماً للماضي، بل من أجل صوت المستقبل الذي ما زال قادراً على الحضور، إذا ما أُتيحت له الفرصة من جديد.