نص فكري وفني عذب يناقش علاقة الانسان يالثقافة والمجتمع ويحاول أن يدلنا إلى ان مجريات معركة الثوابت والتطور
علي حسين
بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقة لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب " التثقيف زمن التأفيف " لـ " اليازية بنت نهيان "، ينتمي إلى هذه الفئة، ترسم فيه المؤلفة بقلمها صورا معرفية وإنسانية نمر بها كل يوم، بحصافة الكاتب الذكي، واقتدار المثقف المجرب. ألم يخبرنا بابلو نيرودا ذات يوم ان الكتب التي تساعدنا أكثر هي الكتب التي تجعلنا نفكر أكثر.
في معرض القاهرة للكتاب توقفت عند جناح دار ديوان، اسأل البائع الذي استقبلني بترحاب عن الجديد، وقبل أن تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثا، لمحت كتاب " التثقيف زمن التأفيف " اثار اهتمامي بعنوانه الغريب، كنت انظر إلى غلاف الكتاب الذي تتوزع عليه صور الحسن بن الهيثم واطلال قديمة، وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وام كلثوم تقول " اووف "، يخبرنا صموئيل بيكت أنه مولع بقراءة الكتب ذات العناوين الغريبة، لأنها حسب رأيه يختلط فيها الترقب مع البحث عن المعرفة، تذكرت هذه النصيحة وقررت أن أخوض التجربة مع هذا الكتاب الغريب العنوان والغلاف.
كتاب صغير الحجم، كبير المحتوى، لا تتجاوز صفحاته المئة واربعين صفحة، لكنه نوع نادر من الكتب في لغتنا العربية، ممتع اثناء التجوال في صفحاته، فيه جهد فكري وإنسانية عذبة. تأخذنا المؤلفة في رحلة مشوقة، تبدأ بالتحية لكلمة " أف " التي نطلقها استياءً من بعض الأفعال المسيئة، وكأن كاتبته " اليازية بنت نهيان " كانت تفكر وهي تكتب السطور الأولى من كتابها بما قاله أبو العلاء المعري: " أُفٍّ لِما نَحنُ فيهِ مِن عَنتٍ "، هذا العنت الذي يدفع المثقف الى أن يسرح بخياله في بعض الحكايات والمحطات المستوحاة من مجتمعنا العربي.
مما لاشك فيه ان الثقافة العربية قد طرحت منذ عشرات السنين اسئلتها الدالة على التفاعل الداخلي بين مكونات الذات الحضارية العربية من جهة، وتفاعلها الخارجي مع العالم من ناحية ثانية. فنحن ما زلنا منذ أكثر من قرن نطرح اسئلة الاصالة والمعاصرة، وقضايا الموروث والحاضر، والعلاقة بين القديم والجديد، وهذا ما تنتبه له المؤلفة، فتكتب في التمهيد لكتابها بأن مهمتها هي البدء بالتشخيص والتحليل: " علنا نجد إشارات تنير لنا الدرب، وتمكننا من الوصول إلى إجابات، علها تساعدنا على التقييم والتقويم، تساعدنا على الإدراك حتى وإن كان محدوداً، إدراك أبعاد الماضي وتصورات المستقبل وتحدياته "، بهذه الروحية تخوض المؤلفة رحلتها ببن الحاضر والماضي والخيال والواقع والعادات الموروثة والمستقبل، متنقلة من ابيات جميل بن معمر، مرورا بمصطفى الرافعي وجواد علي وليس انتهاء بهايدغر ودوريس ليسنج، بنظرة لا تخلو من فلسفة واقعية خلاصتها اننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب اوراقنا وسط عالم يعج بالحيرة والاضطراب.
يتناول الكتاب موضوعة الثقافة، لكننا ونحن نتجول في صفحاته، سنجد جدلية السؤال في إطار يتشابك مع البحث عن المعرفة، نتنقل بين الحرية والإيمان والسياسة والفن والبحث عن الجذور. تبدأ الكاتبة بالهوية ودلالتها الإنسانية ولا تنتهي بالبحث عن قيم الجمال، لكن الأهم مطاردة الحقيقة من خلال رحلة تأملية، فمعرفة الذات كما يقول افلاطون هي غاية الغايات.
اليازية بنت نهيان اديبة تكتب بلغة يمتزج فيها الفن بالعلوم، تنشر قليلاً وتفكر كثيراً، وتعيش الحياة بكل هواجسها، ويبدو كتابها هذا اشبه بالمغامرة، فحبها للكتب التي تربت معها يجعل القارئ يشعر انه يقرأ كتاب مليء بالحكمة والحكايات والأفكار والأهم متعة التلقي، يكتب ميشيل دو مونتيني في كتابه الشهير المقالات: " أنا لا أبحث في الكتب سوى عن التمتع بها، باستجمام صادق، واذا ما أنا مارست الدراسة، فليس ذلك إلا بحثاً عن العلم، الذي يتناول معرفتي بنفسي، والذي يعلمني حُسن العيش ".
نرحل مع المؤلفة في ثمانية تأففات، التأفف الأول يبدأ بمناقشة موضوعة الهوية وطرح اسئلة الوجود وما يشكله الماضي لنا من تبعات لا نزال نخوض غمار خلافاتها، والحاضر الذي يعيش على ايقاع متغير وسريع، ونظرتنا الى المستقبل غير المعلوم بالنسبة لنا ودورنا فيه، ونمر معها على التأفيف الأخرى فندرك ان المؤلفة تملك صوتها الخاص، وبصيرتها التي تجعل القارئ يَّسعد بالجلوس الى صفحاتها، ليصطحبها في رؤيتها المتبصرة للعالم، وتقيمها النادر للأفكار والمعاني.
في كل تأفيفة من تأفيفها الثمانية تحاول ادخال نوع من الجمال المخلوط بدقة المعلومة وسلاستها ورحابة المشاعر الانسانية، واتساع الافكار والمعارف، نقرأ هذه العبارة ونتمعن فيها: " في فلسفة المنفعة، نعلم أن الجدوى من استقلال وجهة النظر او الرأي يقتصر على اقرار الإنسان باتباع تجربة حياتية خاصة به، ثم تتنوع حياة الافراد "، ولتعزيز هذه الفكرة تذهب المؤلفة إلى مثال قريب من الناس وهو الشريط السينمائي فتكتب في الفقرة التالية: " كما في فيلم (موعد غرام) أيقنت فاتن حمامة في دور (نوال) أن أحدهم (بيبص على العربية) وأحداً أخر (بيبص للأخلاق) ". لاحقا تعرض في التأفيف الاخرى جميع التجارب والاختبارات الحياتية للبشر كدعوة للتفكير. إن الوضوح الذي يميز هذا الكتاب يجعلنا كقراء نتساءل حول اهمية مثل هذه الكتابات التي تندرج تحت خانة جرأة السؤال قبل التسليم بالإجابة، والبحث عن المعنى خارج حدود المسلمات. كتب الامريكي مارك توين: " من لا يسأل يبقى احمقاً الى الابد ".
التأفيف الثمانية هي قطع من الحياة النابضة، تقدمها بشكل فني تذوب فيه الكلمات بكل امانة وصدق، وكما تكتب في التمهيد القصير: " هي دعوة إلى التنقل بين محاور ثقافية، سارحين في ذواتنا لاستكشافها، ولنعرف اسرارها ودوافعها وما يدور في فلكها ".
واليازية بنت نهيان تقف على رأس جيل اماراتي وهب حياته للثقافة والعمل على تسهيل وصولها الى القارئ بكل مستوياته. ونعرف انها مارست العمل الثقافي من اوسع ابوابه عندما عينت اول سفيرة للثقافة العربية، واستطاعت من خلال موقعها هذا أن تطلق الكثير من المبادرات والجوائز الثقافية والفنية، يضاف الى ذلك ممارستها الكتابة والنشر في عدد من الصحف والمجلات الرصينة، وكتابها يمثل بوضوح هذا الموقف الرصين من الثقافة.ولعل بحثها في موضوعة التثقيف يقربها من مفهوم الثقافة الذي وضعه عالم الاجتماع البريطاني ادورد تايلور من ان الثقافة: " منظومة كلية من المعارف والمعتقدات والشرائع والاعراف وسائر الخبرات والعادات التي يكتسبها الفرد بحكم كونه عضواً في المجتمع الذي ينتمي اليه "، ولعل هذا التعريق يتطابق بوضوح مع ما تطرحه في كتابها " التثقيق زمن التأفيف "، فهو يهتم بمناقشة القيم الانسانية والعلاقة بين الثقافة والاخلاق، دون ان يثقل على القارئ، بل يحاول ان يدفعه الى البحث والتنقيب بنفسه عن قضايا تشغل مجتماعتنا. وكأن المؤلفة تشير بوضوح الى ان الثقافة هي بمثابة البوصلة للمجتمع التي بدونها ربما لا يعرف الافراد كيف يتوجهون.
" التثقيف زمن التأفيف "، نص فكري وفني عذب يناقش علاقة الانسان يالثقافة والمجتمع ويحاول ان يدلنا إلى ان مجريات معركة الثوابت والتطور، تعمد فيه الكاتبة الى تعشيق عدة خيوط في آن واحد، وتتحرك من خلال صفحات كتابها على عدة مسارات مختلفة من اجل خلق حالة من حالات الانسجام في سياق كتاب شديد التركيب، شديد البساطة في نفس الوقت.
هذا الكتاب اتمنى ان اجده في كل مكتبة بيت في بلادنا العربية، لما فيه من موضوعات، ومن أحكام واضحة في الحياة والاخلاق والسلوك، وهو محاولة ثقافية يجب ان نتوقف امامها كثيراً، فنحن امام كاتبة تعرف وظيفتها جيداً.