علاء المفرجي
ينتمي الشاعر العراقي رشدي العامل (1934-1990) إلى جيل من الشعراء العراقيين عُرف فيما بعد باسم «الجيل الضائع»، وسُمي بهذا الاسم لظهوره بعد جيل الرواد في العراق، الذي يضم إضافة إليه الشعراء سعدي يوسف، ومحمد سعيد الصكار، ويوسف الصائغ، ومحمود البريكان، وحسب الشيخ جعفر... وآخرين. ويعد العامل أكثر من أي شاعر آخر سواه من شعراء هذا الجيل اقترن اسمه بالرومانسية: اتجاهاً فنياً، ومضامين شعرية.
أصدر ثمانية دواوين منشورة؛ كان أولها «همسات عشتروت» (1951)، وآخرها «الطريق الحجري» (بغداد 1991). وهو شاعر متماهٍ مع قصيدته، يمثل علاقة متفردة في الشعر العراقي الحديث جعلته قريباً من قلوب الناس.
استعادة الشاعر الخمسيني الراحل رشدي العامل يستلزم الوقوف عند اهتمامات جيله «التي كانت السياسة شاغله، والواقعية منهجه في الشعر والسرد، تعبيراً عن رؤية اجتماعية تزدهر في الصراعات الطبقية والعقائدية، حيث تتصادم الرؤى وتعبر عن نفسها مباشرة بصوتٍ عالٍ، وغنائية تنعكس على لغة القصائد وصورها وإيقاعاتها».
ولد في مدينة حديثة بمحافظة الأنبار سنة 1934. تميز شعره بالوطنية وتعرض لمضايقات السلطة وفُصل من الدراسة في شبابه، ونفي إلى القاهرة، ثم عاد إلى العراق بعد انقلاب 1958، لكنه طورد واعتقل في انقلاب 1963، وسجن في قصر النهاية في انقلاب 1968. مُنعت كتابته وأشعاره أكثر من مرة.
كان شاعرا شيوعيا ملتزما لم يجامل النظام العراقي رغم أنه لم يغادر العراق بعد انهيار الجبهة الوطنية في سبعينات من القرن الماضي. عاش وحيدا رغم علاقاته الواسعة مع الأدباء، حتى وفاته وشُيّع من قبل عدد غفير ليدفن في مقبرة «أبو غريب»، وقد صدرت أعماله الكاملة في مجلد واحد عن دار المدى.انعكست قسوة والده عليه كثيرا في شعره ويذكر ان والده اعتقل بعد حركة رشيد عالي الكيلاني بتهمة التجسس لصالح الالمان ثم أطلق سراحه فيما بعد.
علاء المفرجي في صحبة الشاعر
هو بإحساس الشاعر المرهف، وانا برغبة الفتى الطامح الى ولوج عالم الادب والثقافة، اصبحنا صديقين، رغم اكثر من عقدين من الزمن تباعد بين عمرينا. لا ادري ان كان من حسن او سوء حظي ان الازمه في السنوات الاخيرة من حياته في الايام التي كان يعرف جيداً وبحدس الشاعر انها ما تبقى له من رصيد حياته المكتنزة بتجارب ثرة في الشعر والسياسة والصحافة والصداقة ايضاً. كان هو في صومعته يسمع قبساً من الموسيقى، ويطمئن على قناعته بأن الشعر هو الخلاص الوحيد ويستقبل الاصدقاء الذين وجدت نفسي بينهم نلتقي صباح كل يوم في بيته (الشاعر عبد الرحمن طهمازي، الصحفي المخضرم منير رزوق، المثقف الموسوعي محمد علي السامرائي، الموسيقار الراحل فريد الله ويردي، والطبيب نزار المفتي)،هذه الصحبة التي قال عنها في احدى رسائله لي (ان عالمنا الفكري والثقافي المحدود يتسع شيئاً فشيئاً عبر هذه المجموعة الصغيرة التي تجمعت بشكل عفوي وبدأت تشترك في الاهتمامات الفكرية بشكل جدي، شعر، قصة، مقالات، سينما، موسيقى... اتمنى ان تتسع فهي نواة رائعة لمجموعة من المواهب المختلفة)، ومن هذه الصحبة تعلمت الكثير، كنت انهل من زادها المعرفي وبمرور الوقت امتلكت الجرأة على محاورتها وابداء رأيي بلا تحفظ وكم كنت سعيدا بأن تجد ارائي صدى لها، زرع في نفسي ثقة لا حدود لها عندما كنت باستحياء ادفع له اولى محاولاتي في كتابة النقد السينمائي ولم يكن يكتفي بتشجيعي بل كان يأخذ على عاتقه نشرها في الصحف .
في مذكرات الشاعر رشدي العامل، نقع على شذرات من حياته نقف هنا عند بعض سيرته:
لقد كنت طفلا في أسرة متواضعة
لقد تميزت طفولتي بعيداً عن الادعاء بنوع من التألق غير الاعتيادي في وسط اجتماعي محدود مغلق واشبه بالبدائي لقد كنت طفلا مدللا في اسرة متواضعة ولانني كنت الطفل الأول لأبي وامي، والطفل الأول، لدي اخوالي الذين لم يكونوا قد تزوجوا . ان أبي وقد اعطي هذه الهبة النادرة التي هي أنا، اراد ان يصنع منها شيئا نفيسة. لقد حلم -هكذا اتذكر ان يغدو هذا الطفل الذكي الجميل، هذه اللعبة المتقنة الصنع، شخصا مرموقا وفذا ؟ وبالطبع فان الهالة التي أحيطت بها طفولتي، كانت ترشحني في نظر أبي على الأقل، لأن اقتحم العالم، من بوابة الوظائف العامة التي ستفضي بي، دون ريب، الى ان احتل كرسيا في مجلس النواب، قبل أن أغدو وزيرا ، وربما رئيسا للوزراء ذات يوم من يدري.
فبعد ان زرعني في هذا العالم، زرع أبي حبا لا فكاك منه ابدا، للشعر والتاريخ والسياسة لقد ظل هذا قدري. غير ان الشيء الأكثر عمقا وتأثيراً، من كل ما عداه هو غرس الروح الوطنية العالية الجامحة التي تقرب من الهوس. انني لأبتسم حتى الان بحنان الاحد له، وبامتنان عميق عندما اتذكر بمرح كيف كان يحلو لأبي، خصوصا عندما يشرب، أن يسمعني قصيدة ما، او يستمع إلي، وانا أهدر بمقطوعة شعر حماسية، او ألثغ بقصيدة تنوح على الاطلال؟ طفولتي هيأت لي فرصة طيبة، كان مزاجي الخاص المتفتح والطليق، يسعفني دائما في استثمار ألذ ما فيها. ان الالتذاذ هنا بمعنى انني كنت استطعم أیام طفولتي: الذهاب الى المدرسة وحب المعلمات في روضة الاطفال بمدينة الرمادي، والمجلات المصورة واحاديث أبي مع ضيوفه، وثرثرة النسوة الزائرات وفيما بعد الاشتراك في الحفلات المدرسية: التمثيليات وحفلات الخطابة والالقاء وفي مرحلة لاحقة، القراءة الشغوف لكل ما تصل اليه يدي.
ذاك زمان، ورحم الله عمر فاخوري، كنا نسكر فيه بزبيبة. واذن؟
فلم يكن ذاك قدري فقط، أنه اختياري، كما يقول كولن ولسن، اختيار محض بعد طواف مشتت. لقد تساءلت، بضراوة الشباب وحيويته ويأسه احيانا، این الدرب؟ وبدأت، اكتشف ببطء، بصبر، بشيء من المشقة وكثير من روح الارتياد حياتي بدأت مسارا جديدا . وبهذا الاكتشاف كنت شقية وسعيدة ان الي قدرة لاحد لها على العطاء. هكذا تخيلت وهو العطاء الذي يفوق في مدى ما يمنح من سعادة داخلية كل ما يمكن
آن انوء به مستقبلا من عذاب وعنت. آن قدرة لا نهائية، قدرة غير محدودة على الحب، كانت هي الزيت الذي امد هذه الآلة البشرية المعقدة بالطاقة وهو - زيت الحب هذا ما منع الآلة من
التآكل والصدأ حتى الان. متعبة هي الخطوة الاولى متعبة وحاسمة في طريق الانسان.
ومنذ البداية فكرت انها ليست لعبة انها عملية شاقة. تحول كامل، ونهائي هذا الذي وجدت نفسي فيه، بعد جلسات طويلة مع حسين، ومع من أبقتهم العاصفة الغبراء التي اجتاحت صفوف الحزب الشيوعي بعد اعدام قادته الثلاثة ووضع قيود السجن الطويل في معاصم الكثيرين من قادة وكوادر الحزب.
الناقد فاضل ثامر: ما زال يبتسم للحياة
يمثل الشاعر الراحل رشدي العامل علامة فارقة في سفر حركة الحداثة الشعرية العراقية. وتمتلك تجربته خصوصية كونها تقع في الحد الفاصل بين تجربتين حداثيتين، هما: الحداثة الخمسينية، والحداثة الستينية. ولذا، لم يخضع الشاعر لعملية تخصيب جيلي، وأطلق عليه وعلى بعض أقرانه المماثلين، أمثال محمد سعيد الصكار وصادق الصائغ وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وسلمان الجبوري وغيرهم، صفة «الجيل الضائع»، وهو مصطلح مستعار من مصطلحات من النقد الأميركي لا يمكن أن ينطبق على تجارب هذه المجموعة الشعرية، وهو موضوع بحاجة إلى فحص نقدي خاص.
وتتسم تجربة الشاعر رشدي العامل بالتصاقها برؤية رومانسية رقيقة، لكنها تمتلك نزعة ثورية تمردية يمكن أن نصفها بالرومانسية الثورية، فهي تزاوج بين منحى غنائي ذاتي متجذر وانشغال بهموم اجتماعية وسياسية وآيديولوجية. ولذا، فتجربته تمثل من جانب آخر موازنة بين تلقائية التعبير الرومانسي والصفة الشعرية الواعية التي لا تصل إلى مستوى «التصنع» والتعقيد.
كان رشدي العامل عاشقاً للحياة مؤمناً بالمستقبل، وكان يعشق كل مظهر من مظاهر الطبيعة، لكنه كان أيضاً يطيل التأمل في جواره المتصل مع الزمن والموت، إذ تنبأ في قصيدة «رجل الأحزان» بموته:
«غداً إذا جاء رهيف الخطى
قولوا له
قد رحل الراحل...».
حاتم الصكَر : العذاب السعيد أو: جنات رشدي العامل
1 - لكي تصل الى رشدي في سريره الذي تلازم وإياه في سنواته الاخيرة، فأن عليك أن تجتاز باباً لايغلق على الدوام ثم تعبر حديقة جانبية ستعلم منه أنها (حديقة علي ) ولده البكر(1) التي زرعها قبل سفره فصارت عنواناً لديوان رشدي الأخير واسماً لقصيدته الرئيسة ذات المقاطع المتعددة .
وحين يجئ صوتة مرحباً مستبقاً رؤية القادم , يكون قد أزاح الغطاء أو ابعد كتابا فكأن سريره هو العالم . يواجه الخارج وهو مبحر. بحره الشعر ومياهه الكلمات . الغرفة: كأس وسجائر وصحف متناثرة وكتب مصطفة دون ترتيب أو مرمية على الأرض . جدرانها صور ولوحات باهتة وقديمة من إحداها يطل وجهه فتياً . البورتريت يحاول إحضار فتوة الشاعر الذي كان , ويستبق الغائب بمحاولة حصر حضوره قسرياً عبر ملاحمه الجميلة . ليس بعيداً عن اليد . ثمة هاتف مشرع لإحضار أي صديق في أي وقت ، من أي مكان. حين يراني يهز يده اليمنى التي زادها الوهن والمرض جمالا وترفا . ثم إجلس مشيراً إلى أي فراغ حوله : السرير أو الكرسي . ثم يقول : اسمع هذه القصيدة ويمد يده تحت السرير أو تحت الوسادة أو يفتش في صفحات كتاب .. ليجد القصيدة.
حيث تمتد يد رشدي يخرج الشعر . وكنت أداعبه كل مرة بهذه الحقيقة: إنك تخرج الشعر من أي مكان حولك . وكان هو لايفتأ يذكرني بهذه الدعابة كلما التقينا.
(بالنسبة لي لم تكن تلك دعابه أو طرفة ) انني احس ذلك وأعتقده. فيد رشدي لاتبعد عن الشعر إلا بعدها عن القلم . وهذا هو سر شعرية قصائده ( أو بالاحرى قصيدته. فرشدي لم يكتب إلا قصيدة واحدة يغنيها بألف صوت وألف مفردة. يهمس بها أو يصيح يباشرها أو يناجيها. لكنها هي دون سواها.
2 - في نصه تحتدم الواقعات . بل نصه حرب واقعات استهلكت حياته فأراد أن يأسرها في شعره ليتغلب عليها بعد أن هزمته . فيباشرهاويحاورها ثم يُطلقها إلى فضاء حرص أن يكون أوسع ما يستطيع. يمكننا إن نسمي – إن شئنا – بضع واقعات :
– واقعة المرأة :
مجنون من يحسب أن امرأة
تعشقه وحده (3)
– واقعة الاٍنتماء:
فالعالم ليس السجن
وأهداب الدنيا بستان
العالم ،ياولدي ،الإنسان
– واقعة الإبن .الغالب :
ياولدي ترحل ؟
ها أنت بعيد
شاهدت أصابعك الملمومة حول الكاس
وعينيك السوداوين
تغيمان وترتعشان(4)
– واقعة المرض :
ساقي مشلولتان
لن أستطيع اليوم
أن اركض في الحارة
رشدي العامل: عيون بغداد والمطر
حاتم الصكر
بداية تعرفي بالشاعر الراحل رشدي العامل كان خلال وصول مجموعته الشعرية الاولى المعروفة : ( عيون بغداد والمطر ) حطت المجموعة اولاً بواسطة احد الاصدقاء في مقهى الساقية في مدينة الحرية عام 1961 لقد بهرنا العنوان جميعا اول الامر مما دفعني لشراء المجموعة والاحتفاظ بها في مكتبتي لفترة طويلة من الزمن اعتزازا بها وبصاحبها، لم يكن لي ذلك الميل الكبير الى الشعراو التفكير بامتهانه، بقدر ما كان اغلب اصدقائي هم شعراء ومن ثم ليصبح صاحب (عيون بغداد والمطر) هو الاخر صديقي، لم اجرب الكتابة عن الشعر كأبداع منجز انما دائما اتحدث عن الشاعر بوصفه صديقي، اعتقد ان اغلب الذين طالعوا (عيون بغداد والمطر) قد تأثربه شعراء مازالوا طلبة جامعة، اعني شعراء مدينة الحرية انذاك .. لجمال الصورة ورومانسيتها ولرشاقة العبارة فيها، ولأن الشعر كان لدى رشدي انذاك وسيلة اتصال بالناس الذين كان يهمه الوصول الى عقولهم ونفوسهم ووجدانهم، في تلك الفترة المبكرة من حياته، كان التزامه واضحا ومعروفا بل كان من الجرأة بحيث كنا نخشى عليه ان هو استمر يفتخر بانتسابه الى الحزب الشيوعي العراقي، وكنا انا وحميد الخاقاني نرعى فيه تلك الخصلة من الشجاعة والتصريح بانتسابه من بدون تردد، كان يسعده لقاؤنا في اي مكان نصادفه في (طريق الشعب) او مجلة (الثقافة الجديدة) او النادي ولكن للحقيقة كان رشدي يبوح بما يعتمر في قلبه لمن يطمئن اليه وكان حميد في احيان كثيرة يمثل لديه كاتم اسراره، حتى وصولنا الى ما قبل تهديم ما يسمى بالجبهة الوطنية، لم يكن رشدي يخشى على حياته اما بحثه عن الثقاة من امثال حميد الخاقاني وغيره من منتسبي الحزب الشيوعي، فاجد له ما يبرره بعد اطلاعي الكافي على تاريخ العراق وما مر به اليسار العراقي من ويلات ولنكن اكثر وضوحا : ما مر به الشيوعيون العراقيون من ملاحقات مما جعل الكثير من المرتبطين بالفكر الماركسي اكثر حذرا من سواهم ورشدي على ما يتمتع به من شجاعة الا انه كان يلجأ الى الحفاظ على الكثير من الاسرار سواءً التي تخصه او التي لا تخصه ولقد استغل خصومه الذين هم خصوم سياسيون اكثر مما هم دعاة قصيدة حرة او انجاز شعري، انغماسه في تناول الخمرة استغلوا الامر هذا بلا رحمة، وكلنا نعلم ان ذلك هو انتقام من ثباته على نهج اليسار .... وكان علي ان انتظرحتى عام 1968 لكي احقق جلسة كاملة مع رشدي العامل في مطعم المرايا .. لقد ابهجه وجودنا في المطعم انا وعبد الستار ناصر، بل والاكثر فرحا بالنسبة له اننا دعوناه الى حيث نجلس، كان يتناول مشروبه على عجالة تلك الساعة، الى ان طلب منه عبد الستار ان يتمهل .. لقد استجاب للطلب وبعدها فاجأنا ان قدم لنا نسختين من مجموعته ( حديقة علي ) وكم اسعدني الاهداء والمجموعة التي كتبت عنها مقالا في ذلك الوقت ) قد تعرفت عليه من خلال مجموعته الاولى الرومانسية العذبة ( عيون بغداد والمطر عام 1961 ) التي ستبقى شاخصة كعلامة على شاعريته النادرة حسب ما عرفته من حضورها في النقد الادبي في تلك المرحلة .. اذن كان علي ان انتظر ربع قرن لكي اكتب عن ( حديقة علي ) في عام 1986 التي ارسلت عنها مقالا الى جريدة الجمهورية او الثورة في حينه، مما اثار حفيظة اكثر من شاعر متصورين اني اقدم نقدا لقصائد رشدي العامل في ذلك المقال الذي كان يتناول جانباً مهماً من سيرته الذاتية وعلاقته بولده علي، الذي هو رمز لرشدي في الوقت الذي نعرف ان الحديقة هي رمز الوطن الذي عاش فيه رشدي العامل الذي مازال حيا في ضمير محبيه وعشاق شعره ..
الناقد علي حسن الفواز: القصيدة بصفتها استعادة الغائب
اشتغالات رشدي العامل الغنائية ليست بعيدة عن هاجس تأثّره بالنزعة الرومانسية، وبالحسّية التي ظلت تؤطر قصائده، وكأن تمثله للغناء الشعري معادل نفسي ثوري، حيث أزمته الوجودية، وأحاسيسه المضطربة، وهوسه بالفقد، وحيث صور الوطن - الحلم، وشغف الحرية، وهي إحالات تعكس نزوعه للرمزية، بصفتها تمثيلاً استعادياً للغائب الذي يحضر بقوة في القصيدة، أو بصفتها إسقاطاً نفسياً لعلاقته بذلك الغائب، حبيباً كان أو وطناً أو معنى يتطلب نوعاً من التواطؤ الاستعاري.
والفصاحة الرومانسية قد تكون علامة مفارقة لشاعر «خمسيني» أشبعته الآيديولوجيا والثورة والحرية كثيراً من الصخب، أو التمثيل الشعاراتي للواقع، لكن خصوصية رشدي العامل في كتابة قصيدة «الخفّة» الغنائية ظلت أكثر اقتراباً من هواجسه وحدوسه، فهي بمثابة حقل تعبيري يقارب من خلاله الشاعر العالم اللغة، والوطن، والحزب، والغائب، فمفردات مثل «بوح، أشمّ، الحديقة، النهر، الحب، الولادة، الكأس، شراع، الدجى، النسيان، وغيرها» تنطوي في سياق التمثيل الشعري على إيحاءاتٍ لعلاقة الشاعر المضطربة بالآخر، إذ تبدو القصيدة كأنها نداؤه الشعوري، أو رسالته إلى غائبٍ ما، أو تلوينه لرغبة غائرة بحميمية في الروح، أو اعترافٌ للآخر الذي يحضر عبر سكنى الاستعارة، أو عبر السؤال الذي يستأنف معه لذة الحضور.
البنية الإيقاعية في قصيدة العامل تُكرس في اشتغالها العروضي تمثلها لرومانسيته، ليس بتركيبها الصوتي فقط، بل بإيحاءاتها التي تتجاذبها ثنائية الوجود والحلم، فهو يكتب عن الضياع بصفته وجوداً منتهكاً، ويكتب عن الحلم كأنه تأويل للضياع الذي يمزقه، وبما يجعل لغته الشفيفة أكثر اشتباكاً بالإيقاع، وبالنبرة التي تستبطن صوته الداخلي.
وأحسب أن كتابه الشعري «حديقة علي» هو أكثر كتبه تمثيلاً لفكرة «الاكتمال الشعري»، وحتى لخصوصية تجربته الشعرية التي ظلت بعيدة عن التجريب والمغامرة، وكأنه يوحي من خلالها بأنّ نزعته الرومانسية في الكتابة ظلت هي المقابل النوعي للقصيدة الشخصية، القصيدة المشبوكة بالحياة والحلم والحرية، والتي لا تحتملها القصيدة الثورية الصائحة التي انحاز إليها كثيرون من شعراء الراية، كما سماهم فوزي كريم.