TOP

جريدة المدى > عام > تحديثات المؤلف الاصطناعي الأدبي: لماذا؟

تحديثات المؤلف الاصطناعي الأدبي: لماذا؟

نشر في: 30 إبريل, 2025: 12:01 ص

د. نادية هناوي
ليس سهلًا أن تتغير الأغراض، ويتبدل رسم الاستراتيجيات بين لحظة وضحاها حتى بالنسبة إلى أكثر الأفراد مهارة في القيادة وأكثر التشكيلات كفاءة في تخطيط المناهج ووضع التكنيكات. وإذا خصصنا حديثنا في الذكاء الاصطناعي، فإن الأمر ينطبق على شركاته أيضًا. إذ ليس هيّنا عليها أن تشرع في تنفيذ أجندات، خَططت لها على وفق أنظمة معدة سابقا وبرامجيات مدفوعة التكلفة ثم تبادر إلى تغييرها أو في الأقل تعيد النظر فيها من أجل أن تستبدلها بغيرها. بيد أن ثمة أسبابا بعينها تفرض على تلك الشركات القيام بمثل هذه التغييرات.
وهو ما حصل مع إصداراتها من النماذج اللغوية الكبيرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي التي ما أن يتم إنتاج إصدار جديد منها، حتى تُرافق عملية إطلاقه حملة إعلامية مكثفة، تبدأ من مدراء الشركات التنفيذيين ولا تنتهي عند وسائل الإعلام، بل تمتد إلى قنوات التواصل الاجتماعي ثم فجأة يطرأ على الإصدار تغيير معين في عمله أو طريقة ضبط إعداداته. ما يؤثر بدوره في طريقة تعامل المستخدمين معه. وعادة ما يتم تعليل تلك التغييرات بأنها من موجبات عمليات التحديث ومقتضيات التطوير مع تناسٍ تام لتلك الحملة الإعلامية التي ضخَّمت المنتج في أنظار المستهلكين وجعلتهم يقبلون عليه بكثير من الشغف ومن دون أي تردد.
إن هذه الظاهرة تصدق في مجال توظيف المؤلف الاصطناعي لأجل إنتاج محتوى نصي أدبي أكثر من المجالات الأخرى. ولا يعني هذا أن التحديثات والتطويرات لا تشمل توظيف الذكاء الاصطناعي في المجالات العامة كالمعالجة الطبية والرعاية النفسية والتعليم والتسلح والهندسة ومنصات المال والتجارة والقانون والتواصل الاجتماعي على تنوعها.. الخ؛ وإنما هو يحصل بالتأكيد، ولكن على أمد غير متقارب ووفق صيغة معدة، وليس بطريقة طارئة تفاجئ المستخدمين. مما نجده مع المؤلف الاصطناعي الأدبي، ما يؤشر على وجود عوز ما أو حصول تلكؤ، يستوجب التغيير بشكل غير مخطط له سابقا.
أما المستخدم الذي وضع ثقته بهذا المؤلف الاصطناعي، وصار مطمئنا إلى الإفادة من محتوياته النصية، فسيواجه حتما صدمة وهو يجد أن ما تنتجه الآلات الذكية من نصوص أدبية ونقدية ليس عملية سحرية تجري من تلقاء هذه الآلات ذاتها، وإنما هي حزمة من الخوارزميات، تعمل على وفق نظام معين. وما يوجَّه بتغيير بعض جوانب هذا النظام قصور ما، معه تتغير الوظائف والغايات. بعبارة أخرى لا يأتي المؤلف الاصطناعي بشيء خاص ومبتكر من عندياته، بل الأمر في تحسين عمله يتوقف على طريقة المستخدم في توجيه الأوامر إليه وصياغة المطالب (Prompts) بشكل مناسب. وقد يقوم المستخدم بإعادة صياغة مطالبه بشكل أكثر تفصيلا ولمرات كثيرة حتى يتمكن في النهاية من بلوغ ما يريده. وهذا ما يسمى بفن توجيه الذكاء الاصطناعي أو فن هندسة المطالِب Prompt Engineering.
ومما طرأ مؤخرا على المؤلفين الاصطناعيين المتمثلين بروبوتات المحادثة chatgpt بأنواعها وكذلك Gemini وClaude وغيرها من النماذج اللغوية الكبيرة أنها عدلّت من طريقة توصيل البيانات إلى المستخدمين، وذلك بذكر بعض المصادر التي منها تستقي تلك النماذج معلوماتها وتنشئ محتويات نصية هي ليست إبداعية، لأن الأساس فيها هو مماثلة المخزون من النصوص الأدبية والنقدية على شبكة الانترنت.
صحيح أن حصول تغيير ما في عمل النماذج اللغوية الكبيرة يعد تحسينا جوهريا لاسيما أنها أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي اتساعا وذيوعا، بيد أن حصول التغيير بهذه السرعة وفي إصدارات لم يمض على إطلاقها أقل من عامين هو مؤشر مهم، ويثير استفهاما حول مدى صدق الحملات الدعائية التي رافقت إطلاق أي روبوت من روبوتات المحادثة إلى العمل وساهمت في ذلك قطاعات وجهات ومؤسسات وقنوات ومواقع وفضائيات سيطول الامر بنا إن نحن أردنا احصاءها.
وما بين سرعة حصول التغيير في روبوتات المحادثة وبين تهويل قدراتها، تتأكد حقيقة عملها والمتمثل في تجميع مخزونات الشبكة العنكبوتية من البيانات والمعلومات ثم القيام بمحاكاتها. وفي هذه المحاكاة تكمن المؤاخذات من ناحية الأحقية في استعمال بيانات تعود لجهات وأشخاص معلومين مؤلفين أو ناشرين. الأمر الذي جعل الشركات المصنعة لهذه الروبوتات أمام مساءلة قانونية وأخلاقية، بسبب انتهاكها الملكيات الفكرية وتعديها على حقوق التأليف والنشر. ليس ذلك حسب، بل أيضا التغطية بالدعاية الإعلامية المكثفة على حقيقة عمل الروبوتات التي هي مجرد(ببغاوات عشوائية) كما تقول عالمة اللغويات إميلي بندر، لا تقوم سوى بإعادة(إنتاج ما تحتويه البيانات الضخمة التي تدربت عليها بطريقة عشوائية، ولفهم هذه الآلية، يجب النظر في سبب توليد نموذج لغوي لكلمة معينة، يكمن السبب في أن هذه الكلمة لديها احتمالية ظهور عالية نسبيًا، وهذه الاحتمالية العالية ناتجة عن استخدامها بنحو متكرر في سياقات مشابهة ضمن مجموعة بيانات التدريب. ومن ثم؛ يمكن النظر إلى عملية توليد النماذج اللغوية الكبيرة للنصوص على أنها نوع من السرقة الأدبية، ولكنه يُنفذ على مستوى الكلمة الواحدة في كل مرة)*. ووصف دوجلاس هوفستاتر عالم الإدراك الأمريكي عمل النماذج اللغوية الكبيرة بأنه (فراغ مذهل، مخفي تحت مظهره البراق والسطحي.)
وبالاستناد إلى ذلك كله، قام عدد من الروائيين والناشرين الغربيين بالاحتجاج والتظاهر أمام شركات ميتا ومايكروسفت وأوبن إيه آي، مطالبين إياها باحترام ملكياتهم وحفظ حقوقهم التأليفية على وفق قوانين النشر المعمول بها والمتعارف عليها عالميا. وكان لهذا كله ضغطه الشديد على تلك الشركات، ما اضطرها إلى أن تقوم بهذا التغيير الطارئ. ولا شك في أن مثل هذه التغييرات تقودنا إلى التشكيك في التكهنات المستقبلية التي تطلقها الشركات المصنعة لأي منتج في مجال روبوتات الكتابة الأدبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
ولا غرابة في أن تتجاوز الشركات المصنعة لهذه الروبوتات نقاط الضعف وتغطي على الإخفاقات عند إطلاق الدعاية الإعلانية لمنتج ما من منتجاتها؛ فالعملية في الأساس تجارية بحتة، والتسابق فيها لا يدخل في نطاق البحث العلمي البتة. وأية مشكلة تطرأ على عمل المنتج بالذكاء الاصطناعي تعني التلكؤ في عملية الاستهلاك. ما يضطر الشركات إلى مثل هذا التغيير. وقد يؤدي الأمر بها إلى إعادة النظر في تصنيع منتجاتها وأحيانا تبديل سياستها التجارية برمتها؛ تلافيا للمشكلات الفنية والقانونية، وتجنبا لأية مآخذ أو سلبيات تعترض عملية التسويق، مما قد يؤثر في مسار تنافسها مع الشركات المناظرة لها في هذا المضمار.
ويظل ذلك كله في كفة، وما يتكشف من حقيقة عمل النماذج اللغوية في كفة أخرى؛ ذلك أن روبوت المحادثة ليس كما يتصوره كثير من المستخدمين من أنه مؤلف اصطناعي مبتكر، يدرك ما يفعل، وله القابلية على مضاهاة الإبداع الادبي البشري والتفوق عليه، بل الحقيقة هي أن الروبوت لا يدرك ما يفعل، كونه يشتغل بطريقة المحاكاة. ولقد وجهنا إلى روبوت chatgpt السؤال الآتي: لماذا صرت تذكر المصادر التي تستقي منها معلوماتك؟
فأجاب إن البحث عن الشفافية هو الذي جعله يتدرب على هذا الأمر. وحين أعدنا عليه السؤال بشكل آخر: هل يكون السبب عائدا إلى الشكاوى التي وجهت أصابع الاتهام إلى شركة ميتا وشركات اخرى بانتهاك حقوق المؤلفين والناشرين والتعدي على الملكيات الفكرية؟ أجاب الروبوت بالنفي، ثم أعادنا السؤال على روبوت Claude فأجاب (معك حق، لقد طرأت تحديثات هائلة على العديد من نماذج اللغات الكبيرة، بما في ذلك ChatGPT، وأصبحت قادرة على الوصول إلى معلومات آنية وتقديم مصادرها. أنا في طور التطوير، ولا زلت أتعلم كيفية الوصول إلى معلومات خارجية وتقديمها بشكل موثوق. سأبذل جهدي لأصبح أكثر دقة وشمولية في ردودي، وآمل أن أتمكن من تقديم مصادر موثوقة في المستقبل القريب.)
وبالطبع لا يستطيع الروبوت أن يقول غير ذلك؛ فلقد تمت برمجته بحسب ما هو مغذَّى عليه سابقا. وإلا هل يُعقل أن تفضح الشركة نفسها وتجعل الروبوت يدلي بحقيقة الإخفاق الذي حصل، وأن تغيير البرمجة جاء على خلفية الاحتجاجات وبناء على شكاوى عدة، أرغمت الشركات المصنعة على تحديث نماذجها اللغوية، فغدت تدلي بمصادر معلوماتها التي هي في المبتدئ والمنتهى مستقاة من النصوص الأدبية والنقدية المودعة في شبكة الانترنت!!.
* لماذا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التفوق على البشر في مجال الكتابة الإبداعية؟ موقع البوابة التقنية، aitnews.com، 7 أبريل 2025.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram