بقلم / فخري كريم يتوهم البعض أن الحركات الجماهيرية التي أطاحت بمبارك وزين العابدين، وتجتاح ليبيا واليمن لإلحاق العقيدين بزميليهما، أنها مجرد حركات "عفوية" مضمرة، لا تستند إلى رؤية واضحة، ولا يؤطرها تنظيم أو برنامج عمل أو أساليب وأدوات، وبالتالي فهي تفتقر إلى إرادة موحدة!يعود هذا الوهم إلى أن المألوف السياسي لأي احتجاج أو حركة تغيير في النظام القائم، يستند إلى اطر تنظيمية تقليدية،
سرية كانت أم علنية، حزبية أم نقابية، يتم التوافق فيها على برنامج ونظام داخلي وحلقات للنقاش أو النشاط والعمل.وفي إطار هذا المألوف السياسي السائد، منذ بدايات تشكّل الدول العربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، يتم الإطاحة بأي نظام، أيا كانت هويته،عبر انقلاب عسكري يستند أو يتحالف مع حزب أو جهات وطنية، ويتطور وفقا لمدى انعكاس برنامجه وهويته السياسية على مصالح من يتحالف معهم إلى "ثورة شعبية".وظل هذا المفهوم المألوف، بطابعه التنظيمي، وأداته العسكرية، سائدا ومقررا، لأن الحركات السياسية الحزبية، ذاتها لم تتحرر، رغم التطورات العاصفة التي شملت سائر ميادين العلوم والتكنولوجيا والمعرفة الإنسانية، من الأطر والأساليب التقليدية لعملها، ولم تستطع تجديد أدواتها الفكرية، حتى في حدود مناهجها المعرفية ومنظورها الإيديولوجي.ولم يقتصر هذا الوهم على الأحزاب والنخب السياسية المعارضة، بل تعداها إلى الأنظمة الحاكمة التي احتاطت لحماية سلطتها، بالمزيد من التدابير والإجراءات القمعية، ومصادرة الحريات، وبتعظيم جيوشها وقواتها المسلحة، وعديد أجهزتها الأمنية والمخابراتية واصطناع بعضها لأحزاب أو اتحادات تسعى من خلالها لاختراق الحياة العامة السياسية في البلد، كما في حال الإتحاد الاشتراكي العربي قبل الحزب الوطني المصري وحال اللجان الشعبية في ليبيا وحزب السلطة في اليمن وسواها.لكن هذا التحوط، ظل هو الآخر في حدود مفاهيم السلطات والحكومات التقليدية المتخلفة، ورؤياها الإستراتيجية في مواجهة حالات التمرد والانقلاب، دون أن تنتبه لما يجري حولها في المجتمع، وفي قاعه وإطرافه، وبين الأوساط الشبابية المتمردة بطبيعتها، والمهمشة بفعل البطالة والإهمال وانسداد أفق الحياة الإنسانية الكريمة.وهل هناك ابلغ وأكثر سذاجة من توصيف مبارك لـ "أولاد" "الفيسبوك" و"التويتر" وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي والمعرفي، حين قال تعليقا على معارضتهم: "خليهم يتسلوا.. شوية عيال مع بعض"!لقد فات قطبي "السلطة والمعارضة" أن قوى كامنة جديدة اكتشفت بحيويتها المعرفية ونظراتها الثاقبة، وسيلة غير تقليدية للتواصل في ما بينها، وبلورة مفاهيم ومواقف، وابتكار رموز متفردة وتوسيع دائرة التواصل، واختبار فعالية التأثير والنفاذ إلى أوساط اجتماعية متزايدة عبر توصيف الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتشخيص عواقبها الخطيرة، وتبادل ما يتبلور وينضج منها بالصوت والصورة والكلمة عبر مدوناتها.لقد أدرك هؤلاء الشباب الطليعيون، أن السلطة بسبب جهلها وتخلفها، سوف لن تتعامل مع نشاطهم بنفس القسوة وردود الفعل الذي تتعامل به مع الأحزاب والتنظيمات، لأنها لا تنظر إلى نشاطهم إلا باعتباره مجرد "كلام"، وتسلية أولاد!وان ملاحقتهم لن توقف تواصلهم عبر "الشبكة العنكبوتية" الخلاقة، ولا يمكن "القضاء عليه" اوتفكيكه وتصفيته، لأنه ليس تنظيما ولا إطارا مترابطا، أو منظومة إيديولوجية.لكن فعالية هذا الوافد العبقري الجديد إلى الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وجد المناخ الملائم لنشاطه وقوة تأثيره ومادة عمله في الانتهاك المتزايد لحقوق الإنسان والحريات وفي بؤس الحياة المعيشية للمواطنين، والهوة المتعمقة بين تركز الثروة في بضعة ألوف من الأغنياء والمتنفذين في السلطة من جهة، و تشارك الأغلبية المطلقة للشعب في الفقر والعوز والحرمان، من جهة أخرى، وفي غياب أي إمكانية للتغيير السياسي في البلاد، بسبب أبدية سلطة الحاكم وتوريثه.وخلافا للأحزاب والتنظيمات التقليدية التي كانت تنشط بين جمهورها المحدود، انطلقت الشبيبة الواعدة عبر مدوناتها في كل اتجاه وبين كل الفئات والشرائح الاجتماعية، ووجدت في أوساط المثقفين المتنورين حليفا لها، وفي بطالة الخريجين المتزايدة أعدادهم، وفي الشغيلة حوامل لمضامين مواقعها ومصادر لتنمية معلوماتها المستندة إلى وقائع ملموسة في الوقت ذاته.لكن هذه الظاهرة التي برزت بوضوح نموذجي في مصر، تباينت من حيث التأثير والاتساع في البلدان الأخرى.فالشرارة التي أشعلها البطل الشهيد "البوعزيزي" فجرت مكامن الغضب لدى الشعب التونسي، وسرعان ما تحولت الاحتجاجات المحدودة والمتفرقة وما قابلها من عنف دموي لكسر شوكتها، إلى قوة دفع وتصعيد وتوسيع للحركات الاحتجاجية في عموم البلاد.وفي هذا السياق، غذى الشرارة جموع الشباب من خلال مدوناتهم، بالتغطيات الميدانية صوتا وصورة ومعلومة مقروءة.ومع أن هذه الوسيلة الخلاقة في التحريض والتواصل والتعبئة، تلعب دورا فعالا في مواقع الاحتجاج والحركات الجماهيرية في اليمن وليبيا، بوتائر متفاوتة، فأن نجاح الثورة في مصر بالزخم الذي شكله، وقبل ذلك في تونس، دخلت كمحفز تحريضي مباشر ظهر إلى سطح ا
الافتتاحية :لم يعد الصمت ممكناً ..ملامح زمن الأكثرية الصامتة
نشر في: 21 فبراير, 2011: 10:34 م