فريدة النقاشيتطلع غالبية المصريين بشوق إلى ثقافة جديدة نابعة من ثورة الشعب بعد أن أنهكتهم روحيا الثقافة التجارية الاستهلاكية بتفاهتها ومراهنتها على الغرائز وإهدارها القيم العليا والفراغ العميق الذي أحدثته في الوجدان العام حين ارتبطت بقيم المنفعة العارية والربح السريع والفهلوة والشطارة.ولم تكن مصادفة أن وصف الفكر التقدمي الطفيلية ثقافة الطبقة التي سادت في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل ثورة 25 يناير ولا تزال ركائزها قائمة ومتشبثة بالحياة، بل يتآمر عملاؤها ودعاتها على الثورة حتى يحرفوا مسارها اعتماداً على ضعف الخبرة السياسية لحراس هذه الثورة من الشباب، خاصة أن هؤلاء الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورة ثم تطورت لتستدعي كل طبقات وفئات المجتمع قد جاءوا من العالم الافتراضي للإنترنت مع علاقات اجتماعية وسياسية محدودة، وخبرة حياتية قليلة،
لكن أحلامهم كبيرة وتصوراتهم عن مستقبل وطنهم مبتكرة وخلاقة، ومنبع القيم التي تشبعوا بها أممي بالضرورة بحكم اتصالهم بشباب العالم وبكل ما هو جديد فيه وهو الاتصال الذي قد يعوض نقص المعرفة بالواقع المصري. وسوف يشكل واقع الشباب هذا عاصما مؤقتا ضد نفوذ الطفيلية ومؤامراتها على الثورة وسعيها لحرف مسارها. ولهذه الطفيلية علي صعيد الفكر السياسي جناحان قويان الأول وهو الأكثر بروزا الآن وهو جناح الإسلام السياسي الذي دأب علي خلط الدين بالسياسة واعتبر نفسه مفوضا من الله - سبحانه وتعالى - لهداية البشر وحكمهم باسم هذا التفويض. وباسم هذا التفويض يقمع الحريات الفكرية بادعاء معرفته بالحلال والحرام كما يرونه، ولمثل هذا القمع تاريخ طويل ليس في عصرنا الحديث فقط وإنما أيضا منذ عصور الإسلام الأولى حين جرت ملاحقة الفلاسفة والمفكرين الأحرار وقتلهم أو إحراق كتبهم وقطع أرزاقهم باسم السلطان الذي أعطى لنفسه الحق - حفاظا على مصالحه غير المشروعة - للكلام باسم الله مبررا استبداده وإيذاءه للعباد.ودفعت الحضارة العربية الإسلامية بعد ازدهارها من القرون الأربعة الأولى ثمنا باهظا من زمن الانحطاط بعد أن كانت قد أضاءت العالم معرفة وشعرا وعلوما وحكمة، وأقامت في الأندلس نظاما للتعايش بين الديانات استلهمه العالم كله بعد ذلك في صيغ شتى للتآخي والتفاعل الخلاق بين الديانات والأجناس والأمم.أما الآن وبادعاء احتكار الخصوصية والهوية الحضارية يمارس الإسلام السياسي في إيران قمعا غير مسبوق لكل القوى الأخرى بمن فيهم اصلاحيون من صفوف الحكم.وفي السودان أسفر حكم الجبهة القومية التي رفعت راية الشريعة الإسلامية عن انفصال الجنوب في آخر المطاف.وسجل الإسلام السياسي في التاريخ المصري الحديث مليء بالنقاط السود من مطاردة المفكرين إلى الاغتيال السياسي ومناهضة المواطنة والعداء للنساء والأقباط والمراوغة في المواقف السياسية.ووصف هذا الاتجاه بالطفيلي ليس مبالغة لأنه باختصار هو عالة على تجربة الحداثة والديمقراطية والمجتمع العصري الذي يريدون جره إلى الوراء.. وجناح الإسلام السياسي قوي وغني ومنظم وفاعل. أما الجناح الثاني للطفيلية فهو سياسات الليبرالية الجديدة وأفكارها عن حرية السوق والربح السريع عبر ممارسات المضاربة والسمسرة والوكالة للشركات متعددة الجنسية وأنشطة الاستيراد التي دمرت الإنتاج الوطني فأصبحنا نستورد أكثر مما نصدر وننتج أقل مما نستهلك.وجناح الليبرالية الجديدة نشأ في أحضان الحزب الوطني وترعرع في ظل لوثة توريث الابن لموقع أبيه في الرئاسة ولا يزال دعاته أقوياء وأغنياء ومنظمين في مواقع حيوية من أجهزة الدولة.ويشكل الجناحان معا - رغم التناقض الظاهري بينهما - قاعدة قوية جدا للثورة المضادة التي تخطط للإطاحة بحلم الشباب وتضحيات الشهداء الذين سالت دماؤهم من أجل مصر عصرية ديمقراطية وحرة ترفرف عليها رايات العدالة الاجتماعية والمواطنة والحريات العامة كافة.وسوف تكون الثقافة الجديدة التي تخلقت بذورها مجدداً في تظاهرات الشعب العارمة ضد الاستبداد والفساد مبنية على هذه القيم والمثل العليا التي تصون الكرامة الإنسانية وترى في الإنسان أثمن رأس مال، وسوف تترعرع هذه البذور في التربة التي راكمت غناها عبر آلاف السنين مع بدء الحضارة المصرية القديمة فجر الضمير الإنساني ونبع التوحيد ومن قبله التعدد.والثورة كبوتقة للثقافة الجديدة سوف ترى في هذه الثقافة وسيلتها الأولى للارتقاء في مدارج الأمم المتحضرة بعد أن تزيح كابوس الثورة المضادة.
ثقافة جديدة
نشر في: 22 فبراير, 2011: 05:49 م