د. ابراهيم احمد سمو
في خضم التكرار الممل للخطابات السياسية والمجاملات الإعلامية، قلما نجد صوتًا يعلو فوق الضجيج، ويتكلم من موقع المثقف المسؤول، لا التابع أو المهادِن. وفي مقابلة نادرة بثّتها فضائية “كوردستان 24”، كان لنا موعد مع لحظة فارقة، حين تكلّم الأستاذ فخري كريم، الكاتب والناشر المعروف، بمناسبة مشاركته في افتتاح معرض أربيل الدولي للكتاب، إلى جانب الرئيس مسعود بارزاني.
ما ميز تلك المقابلة لم يكن الحضور الرسمي، ولا المناسبة الثقافية فقط، بل ما قاله فخري كريم بجرأة نادرة، وصدق أندر. مقطع قصير من حديثه أصبح الأكثر تداولًا بين الجمهور، لما حمله من تعرية للواقع العراقي، ومن توصيف لبيئة سياسية واجتماعية تكاد تختنق من الفساد والعبث بمصير الأجيال.
لم يكن حديثه تقليديًا ولا محايدًا، بل كان صدمة فكرية وكلمة حرّة خرجت من قلب مثقف عاش عقودًا في خدمة الكلمة، ولم يتوانَ عن التصدي للأنظمة الشمولية، ولا للتنظيمات الفاسدة، ولا للأحزاب حين تنحرف عن أهدافها.
البيئة السياسية: “بيئة فاسدة، بيئة رثة…”
هكذا وصف فخري كريم، دون مواربة، حال العراق، حين تطرق إلى جوهر المشهد العام، سياسيًا واجتماعيًا. لم يتحدث بتعميم ساذج، بل بمسؤولية المثقف الذي يرى الخلل في البنية قبل الأشخاص. وصف البيئة بأنها “فاسدة ورثة”، ليس فقط في مؤسسات الدولة، بل حتى في القيم التي يُفترض أن تكون حامية للمجتمع.
وما قاله لم يكن اجتهادًا شخصيًا معزولًا، بل هو تعبير عن قناعة تشكّلت من تجربة طويلة، عايش فيها العراق بتقلباته وتحولاته، وشهد كيف تحولت الدولة من مشروع وطني إلى بازار سياسي.
“لا أتشرف أن أكون جزءاً من هذا التاريخ”
هذه الجملة وحدها كفيلة بأن تهز الضمير، حين تصدر من شخصية بمكانة فخري كريم، الذي يعرف تمامًا وزن الكلمة، ولا يلقيها جزافًا. أن يصل مثقف إلى هذه المرحلة من اليأس والانفصال العاطفي عن بلاده، فذلك يعني أن الخلل بلغ مداه، وأن الدولة لم تعد تحتمل حتى ارتباطًا وجدانيًا من أبنائها الحقيقيين.
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الذي يجعل مثقفًا يتبرأ من تاريخه؟ إنه ببساطة، ذلك الشعور بأن التراكمات لم تعد فقط سياسية، بل أخلاقية واجتماعية، وأن الفساد لم يعد سلوكًا طارئًا، بل منظومة إنتاج، تفرز نسخًا متكررة من المتسلقين والانتهازيين.
“الكراسي مباءة”… وصفٌ لا يجرؤ عليه إلا مثقف حر
في أحد أكثر مقاطع اللقاء صراحة، وصف الأستاذ فخري كريم الكراسي بأنها “مباءة”، أي مكان تتجمع فيه الشوائب والقذارة. وهذا التعبير، الذي ربما صدم البعض، لم يأتِ من فراغ، بل هو توصيف دقيق لما آلت إليه مواقع المسؤولية في دولة باتت ميدانًا للصراع على المنافع، لا على خدمة المواطنين.
لقد قالها بوضوح: حتى الذين يملكون بعض المقاومة، قد أصبحوا بلا حول أمام طوفان الفساد. هذا ليس وصفًا عدائيًا، بل صرخة مثقف يدرك تمامًا أن الصمت أخطر من المواجهة، وأن التجميل اللفظي للمأساة يزيدها تعقيدًا.
الدولة تحوّلت إلى “بازار”… والمواطن بضاعة
في الصياغة الضمنية لكلام فخري كريم، كانت هناك إشارات لا تخفى، إلى أن العراق لم يعد يُدار بمفهوم الدولة الحديثة، بل تحوّل إلى بازار، حيث من يدفع أكثر، يحصل على النفوذ أكثر. كل شيء قابل للبيع والشراء: العقود، الوظائف، الأحكام، وحتى الولاءات.
وليس هذا تعبيرًا إنشائيًا، بل توصيف مبني على مشاهدات وحقائق يعرفها كل من يعمل أو يتابع الشأن العام. يقولها فخري كريم من موقع من خبرَ السياسة والصحافة والثقافة، لا من برج عاجي أو خلف مكتب مترف.
فخري كريم… المثقف الذي أحبّه الكورد دون مصلحة
ربما من أندر ما يجمع عليه الكورد، في الداخل والشتات، هو احترامهم لفخري كريم. ليس لأنه مدحهم أو بالغ في الحديث عنهم، بل لأنه دائمًا ما تحدّث عن قضيتهم بصدق، ودافع عنها بلا مزايدة، وكتب عنها من موقع الإيمان، لا التوظيف السياسي.
حديثه في المقابلة عن الكورد، وعن تجربته معهم، وعن مواقفه التي لم تتغيّر رغم كل الضغوط، يعكس ثباتًا نادرًا في زمن تغيرت فيه المواقف بتغير المصالح.
وما يميّز كريم ليس فقط مواقفه، بل قلمه. فهو لم يكن أبدًا باحثًا عن لقب، ولا طامحًا إلى كرسي. إنما كاتب حمل هموم وطن وشعب، وعبر عنها في كتبه، وفي صحيفة المدى، التي مثلت منبرًا للمثقفين الأحرار، ومنصة لصوتٍ عراقيٍّ لا يريد أن يُكتم.
نحن نعيش ما حذّر منه… والكارثة ليست في الطريق، بل هنا
ما قاله الأستاذ فخري كريم ليس تنبؤًا بكارثة قادمة، بل وصفٌ دقيق لكارثة نعيشها يوميًا. غياب الثقة بالمؤسسات، تراجع مستوى التعليم، تفشي البطالة، انهيار منظومة القيم، وتحوّل الدولة إلى مافيات تدير مصالحها باسم الشعب.
فالمثقف حين يصل إلى قناعة بأنه لا يمكن أن يعتزّ بتاريخه، ولا أن يفتخر بانتمائه، فهذا مؤشر خطير على أن الشرخ بين المواطن والدولة قد اتسع، وبات يصعب ترميمه.
بين الأقلام الحرة والكراسي الرثة… خيارنا واضح
ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا الصوت، وإلى مثل هذه الجرأة في التوصيف، والمصارحة. ليس لأننا نحب النقد من أجل النقد، بل لأن السكوت بات خيانة، والمجاملات باتت مشاركة في التغطية على الخراب.
من مثل فخري كريم قليلون، لأن من يكتب بضمير، لا يمكن شراؤه أو إخضاعه. ومن يعبّر عن ألمه بحرقة، لا يسعى إلى مصلحة خاصة، بل إلى إصلاحٍ يحفظ ما تبقى من وطن.
في الختام
اللقاء مع فخري كريم لم يكن مجرد مرور إعلامي، بل لحظة صدق، ولحظة ألم. هو صوت المثقف الذي لم يتعب من قول الحقيقة، حتى عندما صارت الحقيقة موجعة.
فليت المسؤولين استمعوا لا لمديح، بل لكلمة ناقدة تصدر عن قلب يحب بلاده رغم كل شيء. وليت الكراسي التي تحوّلت إلى مباءات، عرفت يومًا كيف تكون منبرًا لخدمة الإنسان، لا أداة لتحطيمه
عن / موقع كردستان 24










