TOP

جريدة المدى > عام > النخلة التي طأطأت رأسها لروناك شوقي

النخلة التي طأطأت رأسها لروناك شوقي

نشر في: 4 مايو, 2025: 12:03 ص

حسين سميسم
ماهو مصير الفنان الذي يعيش ممزقا ما بين الغربة والوطن ؟ سؤال طرحته الكاتبة روناك شوقي في كتاب رسائل في الوجع والمسرة، وكتبت فيه سيرة حافلة بالأحداث المتعاقبة الغزيرة، النابضة بالحياة، الساحرة في مواضيعها، رسائل تكتب التاريخ بطريقة جديدة وتدفع القارئ لإعادة قراءتها، فهي رسائل تجسد في مضامينها كثيرا من الشخصيات التي تلوعت بالغربة نتيجة تسلط الديكتاتورية على الحكم في العراق، وتحكي مأساة غربة الثقافة في بيئة غير ملائمة. مصائب متتالية مجسدة بين سطور الكتاب استمرت أكثر من ثلاثة عقود، وما زالت آثارها وجراحاتها بادية في وجوهنا و حياتنا ومشاعرنا وحياة أبنائنا . فقد أسقط الانقطاع عن البلد والاهل من حياتنا اهم سنين العمر، وأعاد صورة أهل الكهف الذين لم تتعرف عليهم مدينتهم، واضحت اللغة معهم غريبة، فالزمن يغير اللغة والعواطف والمفاهيم والتصرفات، وتشعر بعد قراءة هذه الرسائل بتلك المصاعب التي مرت بكل واحد منا .
فن الرسائل الذي استعملته الكاتبة هو فن قديم يمنح الكاتب حرية اختيار مواضيعه دون نسق تاريخي محدد، ودون تسلسل في الحدث، فقد توقف الشاعر معروف الرصافي في كتاب الشخصية المحمدية طويلا للتعرف على أسباب اختيار شكل الكتابة والنسج القرآني في الوقت الذي كانت فيه الكتابة الدينية عبارة عن شعر وسجع ديني، وكان الشكل الحالي متحررا منها، وأصبح يضم شتى المواضيع وشتى الأوزان والقوافي المختلفة . وساهم الشكل المعتمد في تلك الرسائل تناول قضايا متفرقة و ترتبط بخيط سري ينقلك من رسالة إلى أخرى .
حملت روناك شوقي المسرح في كل رسائلها، ولم تنظر من خارجه مطلقا، ففي صفحة 187 تنسى نفسها وهي تتحدث مع ابنتها وتقول اششش سيسمعك الجمهور، وعندما ينبهها الآخرون تضحك من شرودها هذا لكنها تنسى بأن سردها في هذا الكتاب هو نسيان آخر ..ظلت تتكلم وكأنها من داخله مشغولة في مسرحية أو ربما بروفا . لقد ذابت فيه ولم تعرف إلا لغته، فهو أبو الفنون الذي يجمع فوق خشبته فن التمثيل والرواية والموسيقى والغناء والشعر والرقص والتصوير والاضاءة والتصميم والديكور والزخرفة والرسم، وهو شبكة استطاعت اصطياد الكاتبة، وظلت تردد تعابيره في العرض المسرحي وتلجأ إلى جمل تساعدها في تخيل المشهد، ولم تكتب هوامش تفسر بها تلك التعابير ولم تشرح معاني الجمل والنصوص العديدة التي تستشهد بها ، ولم تذكر أي مصدر يستعين به القارئ لمعرفة ما تتكلم عنه، وعندما تقرأ لا يسعك إلا استعمال الكوكل لكي يعرفك بالقائمة الطويلة المعتمدة في تلك الرسائل من روايات وقصص، ومسرحيات، ومقاطع موسيقية التي اقتبستها في سياق النص، فكيف للقارئ أن يعرف ما تعنيه من (مرافقتها لموسيقى بارادسو) و(رنين كونسريتو جلو) و(صوت سبرانو أوبراكوستاديفا)، رسائل لا يمكن فهمها ولا تستطيع الشعور بمحتواها ما لم تطلع على موسيقى موزارت وبيتهوفن وباخ وبرودون…، وكيف يستطيع القارئ أن يفقه ما تتحدث عنه في نوم الجميلات ل(ياسوناري كواباتا). كانت مرافقة الكوكل مهمة لسماع تلك المقطوعات الموسيقية ومعرفة الكتب التي تكتنزها ذاكرتها القوية و تستحضرها في مختلف المواقف والحالات .
إن القارئ يحسدها على كثرة قراءاتها، فهي تشمل مكتبة كاملة سخرتها لاكساب العمل، وربطتها بوشائج بتلك المصادر الثقافية العالمية. كنت أظن أن ثقافتها محصورة بالثقافة الغربية التي تعودت عليها في المسرح، وما ان تصل الى صفحة 170 حتى تفاجئك بمخزون ثقافي عراقي ثر كان من أهم مصادر الثقافة في الستينيات والسبعينيات .
حمل الكتاب عنوان رسائل في الوجع والمسرة معاكسا لرواية فؤاد التكرلي المسرات والأوجاع، وكان التكرلي قد أفصح عن المسرات والأوجاع بالمسافة بين الجنس والموت، لكننا لم نكتشف حقيقة المسرة في تلك الرسائل …كانت متوالية من تعابير الخيبات، والانكسارات، والقنوط، والإحباط، ولا يمكن أن يلومها أحد، فهي قد انتزعت انتزاعا من دفئ العائلة وحنان الأبوة والامومة والامان في ظل تصاعد الدكتاتورية والذهاب الى المجهول في أول تجربة لها في الابتعاد عن البيت، وتتالت الخيبات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، واضطرارها إلى الهجرة مرة أخرى، ولم تجد المأوى الآمن لكي تبدأ من جديد، واضاف تحطيم العراق والانكسارات العديدة والتحول العالمي وتصاعد الأسلمة، الى غربة ثقافية اخرى، كما أدت الصعوبات العديدة التي واجهت المهاجرين، وعدم قدرتهم على مقاومتها الى الانفراط الاجتماعي و التشتت، مما صعّب الوضع أكثر، ويضاف قصر ذات اليد، والعسرة الشديدة في تمويل الأعمال المسرحية أدت إلى خيبات أخرى عكستها الرسائل .
إن ظاهر الرسائل خالٍ من المسرة لكنك تجدها مندمجة مع بعض النجاحات المتحققة مع تلك الصعوبات، مثلها مثل الولادة، الم مميت لكنه فرح ومسرة غامرة.
تبدأ الرسائل من زمن متأخر وتتقدم الى زمن سابق دون رابط بين الزمنين، حيث تنتقل إلى ذكريات بعيدة عن حياتها بطريقة لا تشعرك بانقطاع بين الزمنين، ولا تستطيع تلمس نقطة الانتقال من الثاني الى الأول، وتم ذلك بطريقة ماهرة سلسلة . لم تكن الأحداث متعاقبة، فقد تكلمت عن فترة السبعينيات من القرن الماضي، لكنها انتقلت الى سجن والدها في نقرة السلمان عام 1963، وصفت المشهد بدقة ولونته بألوان متضاربة، نقلت به صورة تاريخية ملونة عن المكان والزمان وحركة الناس في قطار السماوة بطريقة تصويرية خلابة .
وقفت في الرسالة المخصصة للموسيقى بطريقة جديدة تختلف عن الرسائل الأخرى، فهي دون مقدمة ودون أية انتقاله الى موضوع اخر، ظلت تعوم في فيضان الموسيقى، ووقفت حافية في رحابها في مشهد مقدس خاشع طويل، واعترضت على أية حركة جسمانية خلال سماع الموسيقى لأنها لغة الروح التي تحلق بالإنسان إلى الأعالي . وهي من أطول الرسائل في الكتاب،وقد آلت على نفسها ان ترتقي بالروح وتجسدها طائرة في الجو .
لا توجد رسالة واحدة لم تبكِ الكاتبة فيها، صفحات عديدة مليئة بالشكوى، فقد ضعفت علاقتها بالأشياء بل انقطعت في أحيان كثيرة، وتقترب فيها من صورة الرسام في رواية السأم لالبرتو مورافيا الذي كان يعيش في بيت فاره لكنه فقد الاتصال به و بمحتوياته وجمالياته، وكان ارتباطها الكلي بالوطن وويلاته عكس الصورة الواضحة في تصوراتها وتصرفاتها .
لقد وصفت الدين بشكل عميق وناضج وقالت : الدين يوسع القلوب والنفوس ويجعلها مفتوحة نحو الجماليات التي تحيط بنا، وهو التأمل المليء بالشك واليقين..هو التوحد والصمت أمام عظمة ما نملك من طاقة خلاقة، هو الإحساس بعذاب الآخر والسمو والتجلي الروحي للإنسان في لحظة قوته وضعفه، وهو سجادة عجائزنا عندما يصلين بصمت وغفلة .. نصوص كثيرة وجميلة في صفحة 205 معبرة عن التدين الشعبي غير المؤدلج الذي لم يلوثه التدين الفقهي ولا السياسي .
كان الأب هو الرجل الوحيد الذي تكلمت عنه الرسائل، عكست لنا صموده وضعفه وعواطفه التي لم يشأ أن يطلع عليها واحد من ابنائه وبناته،وها هو يلقي في الغربة أبناءه الواحد تلو الآخر، ويسعى بالاتصال بهم بصعوبة كبيرة فرضها النظام الدكتاتوري، وفي رسالة السفر الى براغ صفحة 231 تجسد صورة الأب الذي يتنازل عن ابنائه واحدا بعد الآخر لحمايتهم من السلطة، ويصبر على هذا الفراق العنيف، هاهم يغادروه دون امل واضح بالرجعة واللقاء، يرتب جوازاتهم وتكاليف سفرهم ويحاول إيجاد ملجأ آمن لهم هكذا يغادرون . وصف لائق رصعته الكاتبة بشذرات من مفرداته المعبرة … بباتي .. هاي ..هية .
ذكرت الكاتبة في معظم رسائلها شئ من منجز الوالد الفني، وتكلمت عن شخصيته وبعض صفاته، لكنها لم تشر لا من بعيد ولامن قريب الى احدى ميزاته المهمة وهو الصوت الذي تميز به عن أقرانه خاصة في المسرح، كما لم أعثر على شخص اقترب من هذه الطبقة الصوتية من الممثلين، ولاحظتُ أن أحدا من خارج الوسط الفني يشبه صوته وهو الدكتور الشيخ احمد الوائلي، ففي إحدى الليالي من نهاية السبعينيات وكأنني أسمع الشيخ (نازل بالمصيبة). فقد ارتفع هذا الصوت في مقهى افليكو في براغ وهو يغني اغنية : ياحوتة يا منحوته هدي كمرنة العالي وان كان متهدينه لصيح ابوية وخالي ،ويكسب الفنان خليل شوقي هذه الاغنية معاني سياسية في جو الحرية، وبين عدد من اللاجئين العراقيين، ويكتسب غناؤه اصرارا وعاطفة حين يصل الى : احنا كمرنة نريده يضوي أعلى دنيا جديدة كل الاماني بعيدة اعليه تنعقد امالي، ثم يرقص وسط الطلبة والشباب الذين غابوا عن أسرهم ويصدح : عروسين جبناله شمس وثريا كبالة يتغزلن بهلاله للدوم نوره يلالي .
توجد رسالة واحدة فاقدة لصيغة المتكلم(ص 316)، فهي تتكلم لأول مرة عن نفسها ولكن من خارجها، ولم تطق التوحد للحديث عنها، فخرجت خارج كيانها للحديث عن عيد ميلادها الخامس والستين وكأنما انفصلت عن تلك السنين غريبة عنها وتريد أن تبقى صبية في كل شيء .
كانت رسالتها المعنونة اختي مي(ص 330) ذات حبكة قوية مختصرة من مزيج من آلام العائلة والغربة .لا يستطيع القارئ أن يحبس مهجته ويقاوم هذا النص، لأن هذا المشهد يتشابه عند كل المغتربين الذين لديهم قصصا مماثلة .
صورت رحلتها الى العراق بشكل دقيق واستخدمت خيالها للتعبير عن الواقع، ووصفت لنا النخلة التي تنحني لها وتتراقص لها سعفاتها بجمالية خلابة، لكنها تكتشف في صفحة 457 بعد تلمس التناقض بينها وبين واقع وصفه محمد درويش بأنه: تقاطع شارعين على جسد، لقد اكتشفت التغير الذي أصاب المجتمع، فقد جمدت نفسها في الغربة على ثقافة تلك الفترة التي خرجت فيها من العراق، فقد تطور المجتمع باتجاه آخر، حيث شغلته الحروب و المآسي المتكررة وقالت: لابأس على الاقل اكتشفت حقيقة طالما شغلتني وهي أن الآخر قد تغير .
إن هذه الرسائل هي لوحات استطاعت الكاتبة الاعتناء بها شكلا ومضمونا، وسخرت لها لغة بسيطة ذات مضامين عميقة، وكشفت فيها عن ثقافة متعددة المصادر متسامحة ثرة لم يعرفها جيل الحروب، ولا يشعر القارئ بانتماء الكاتبة الى قومية أو دين محدد، بل الى ثقافة مستلهمة من الشعر والرواية والفلسفة والموسيقى والرسم والنحت وكافة الفنون الأخرى ثقافة ما قبل الدكتاتورية، رسائل طرحت قضية وكشفت عن المعنى الحقيقي للحرية والوطن .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

نجيب محفوظ وحياة الكتابة

صفقة فاوستية بين الانسان والذكاء الاصطناعي، لمن ستكون الغلبة؟

الصوت وحده

وداعاً موفق.. وستبقى معنا وبيننا.. تحيا فينا، ولا يمكن أن يجرفك تيار النسيان

الشعراء أرواح المدن الحية

مقالات ذات صلة

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع
عام

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع

علاء المفرجي الفنان العراقي ناظم رمزي (1927 – 2013)، هو أحد أشهر الشخصيات العراقية في تطوير فن الطباعة وحروف الطبع والفوتوغراف والفن التشكيلي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ناظم رمزي المولود في بغداد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram