بغداد / كريم ستار
بغداد، المدينة التي لطالما تنفست من ضفاف دجلة، وتهادت بين فسحات النخيل وصمت الأزقة القديمة، تشهد اليوم وجهاً آخر، لا يمر المارّ من الكرادة، أو العرصات، أو حتى المنصور، إلا ويُدهش من الارتفاع المتسارع للأبراج السكنية، ومن هذا الطموح العمراني الذي يشقّ طريقه إلى السماء، بينما يضيق صدر الأرض بما حمل.
في قلب الكرادة، حيث كانت البيوت تغفو بهدوء خلف أسوار الاشجار المختلفة، تعلو الآن كتل من الإسمنت المسلح، تصنع ظلالاً طويلة على أرصفة كانت بالأمس ملعبًا لأطفال الحيّ، البرج يجاور البرج، والمساحة المفتوحة تُطوى تحت وقع الجرافات، كأن المدينة تنقضّ على فراغها لتملأه بأي شيء، ولو كان على حساب ذاكرتها.
فلم يعد ذاك الحي يشبه نفسه، أزقته التي كانت تعجّ بالحياة، والمحال الصغيرة التي تحفظ أسماء روّادها، تحوّلت إلى واجهات تجارية زجاجية باهتة، كأن الروح تُستبدل بهندسة مربعة وقوالب جاهزة، ومن كان بالأمس يسكن داراً بطابقين وحديقة صغيرة، أصبح اليوم يحدق في طابقه السادس عشر، محاصراً بين زجاج لا يفتح، وشارع لا يتنفس.
على ناصية الشارع، ما زال دكان كريم صامدًا رغم أنه محاط بورش البناء من كل جانب، كان يعرف كل زبائنه بالاسم، يمازح الأطفال ويعير كبار السنّ دفاترهم “على الحساب”، اليوم، يجلس على كرسي بلاستيكي قرب بابه، يعدّ السيارات ولا أحد يدخل: "المباني الجديدة فيها شقق مؤجرة، ناس تجي وتروح ماكو عشرة، ماكو وجوه نعرفها، الزبون صار غريب، وإذا أجا ما يسلم"، يشير بيده إلى حاوية إسمنتية على الرصيف، ويضحك بمرارة: “هاي كانت شجرة برتقال شايف شلون تغيّرنا؟".
أما في العرصات، حيث كانت الشوارع تحيط بها أشجار الاليبزيا واليوكالبتوس والسدر، وحيث المقاهي تختزن أسرار الأحاديث البغدادية، فلم تسلم هي الأخرى من زحف الاسمنت، المجمعات السكنية العمودية نبتت فجأة، كأنها قفزت من زمن آخر، لا مواقف كافية، لا بنى تحتية تتحمّل هذا الكم من السكان، ولا تخطيط حضري يُراعي حجم التحوّل.
يقول أبو سعد لـ(المدى)، وهو من سكان الحي منذ أكثر من 40 عاماً: “ما نلحق نوقف سيارتنا، الشارع صار أضيق، والزحام ما ينطاق، وهذا غير مشاكل المجاري والكهرباء اللي صارت ما تتحمّل”. وتضيف أم نزار، صاحبة مقهى صغير ورثته عن والدها: “الناس كانت تجي للقعدة والونسة، هسه ماكو مجال حتى للكرسي الواحد، البناء يضيق علينا يوم بعد يوم”. فيما يؤكد الشاب كريم، الذي يعمل في توصيل الطلبات: “كل يوم حادث، كل يوم انسداد، ماكو تنظيم، بس عمارات تطلع فجأة وما نعرف منين”.
ويؤكد مختصون في التخطيط العمراني أنّ ما يحدث يُعد توسعاً عشوائيًا غير منظم، تفتقر فيه المشاريع الجديدة إلى رؤية متكاملة، المهندس الاستشاري سامي العزاوي يعلّق قائلاً: “نحن بحاجة إلى تخطيط طويل الأمد يأخذ بعين الاعتبار كثافة السكان، والبنى التحتية، والمساحات الخضراء، المشكلة أن بعض هذه الأبراج تُبنى دون دراسة واضحة للبيئة الحضرية المحيطة.”
ويوضح العزاوي مساوئ هذه الظاهرة على البيئة: "لم تعد المسألة مقتصرة على التغيير الجمالي أو العمراني، بل أصبحت تمسّ جوهر الحياة اليومية، تراجع جودة الهواء، اختناقات مرورية خانقة، غياب مواقف السيارات، وارتفاع نسب الضجيج والتلوث، كلها مؤشرات تُنذر بأزمة مستقبلية في نمط العيش داخل المدينة.
هذا التمدد العشوائي لا يُعد مؤشراً على تطور عمراني بقدر ما يُمثل تحدياً حقيقياً للبنية التحتية التي تعاني أصلاً من ضغط مزمن، ويهدد البيئة الحضرية بمزيد من التدهور، كما يؤدي إلى تفكك تدريجي في النسيج الاجتماعي للمناطق السكنية القديمة.
المهندس علي الجبوري، خبير في التخطيط العمراني، يحذر من أن: "ما يحدث اليوم في بغداد هو توسع عشوائي يفتقر إلى الأسس التخطيطية السليمة، البناء العمودي يجب أن يُنفذ ضمن خطة شاملة تأخذ بعين الاعتبار البنية التحتية، المساحات الخضراء، والنقل العام، ما نراه حالياً هو تكدّس سكاني يضر أكثر مما ينفع”.
من جانبها، ترى الدكتورة زهراء السامرائي، أستاذة علم الاجتماع الحضري، أن التغيير لا يقتصر على الجانب العمراني فقط، بل يمتد إلى البعد الاجتماعي والثقافي للمدينة، وتقول: “المدينة لا تتغير عمرانياً فقط، بل اجتماعياً أيضاً، عندما تُهدم البيوت القديمة وتُستبدل بأبراج حديثة، نفقد جزءاً من الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية، فالناس يشتكون من انعدام الخصوصية، الضوضاء، والازدحام، وهي عوامل تؤثر على الصحة النفسية وجودة الحياة”.
فيما حذرت عضو لجنة الخدمات النيابية، مديحة الموسوي، من أن غياب المتابعة والرقابة تشكل سبباً رئيسياً لاستمرار المخالفات: "فقد رصدت مخالفات كبيرة في عمليات البناء سواء في المنازل أو التجارية والسكنية، بسبب سوء المتابعة من قبل الجهات ذات الاختصاص، وكذلك بعض عمليات الفساد"، لافتا الى؛ أن "البرلمان يعمل على سنّ قوانين جديدة لتنظيم العشوائيات والبناء، سعياً لوضع حد لهذه التجاوزات ومراجعة المخططات الحكومية".
وفي خضم هذا التمدد العمراني العشوائي، تزداد الحاجة إلحاحاً إلى تبني رؤية شاملة لتطوير بغداد، رؤية توازن بين الحداثة والهوية، وتستحضر الخصوصية الثقافية والبيئية للمدينة، بما يحفظ ما تبقى من روحها العتيقة. فبغير ذلك، قد تنزلق العاصمة تدريجياً نحو فقدان ملامحها الأصيلة، وتذوب في قالب عمراني غريب عنها، بعيدٍ عن تاريخها وهويتها التي صاغت حضورها المتفرّد عبر العصور.