TOP

جريدة المدى > اخبار وتقارير > عندما باع أبي قميصه ليُطعمنا صوتَ هيثم يوسف!

عندما باع أبي قميصه ليُطعمنا صوتَ هيثم يوسف!

نشر في: 4 مايو, 2025: 02:07 م

المدى/أيّوب سعد

إلى مصطفى إبراهيم

لم يكن صوتُ هيثم يوسف في حياتي مجرّدَ نغمةٍ عابرةٍ أو طربٍ سريع الذوبان، بل كان، منذ الطفولة، فردًا من العائلة. شيئًا يُشبه البطانياتِ الدافئة في شتاء البيوتِ القديمة، يُشبه ضوءَ الفانوس حين تنقطع الكهرباء، ويُشبه صحنَ الأرز القليل الذي تتقاسمه العائلة على طاولةٍ واحدة.

كانت البداية مع أغنيته "بس إنت وحدك"، حين كنا في بيتنا الصغير، أمي تعمل بصمت، وأبي يُحاول أن يُبقي كلَّ شيءٍ قائمًا رغم ضيق الحال، لم نكن نملك الكثير، لكننا كنا نملك صوتَ هيثم، ينساب من المذياع أو من الكاسيتِ القديم، الذي لا يعمل أحيانًا إلا إذا ضربته بقبضة يدك.

صوتُ هيثم كان جزءًا من طفولتي، مثل الحقيبة المدرسية التي رُقّعت كثيرًا، مثل وجبة العدس. لكن الأغنية، رغم كل شيء، كانت تُلمّع العالم، وتمنحنا لحظاتٍ من الحُلم، كنت أُردّدها بصوتٍ خافت، لا أفهم كلّ كلماتها، لكنني كنت أفهم أنني حين أسمعها أشعر بالأمان.

وفي المراهقة، أتت أغنيته "أضعف كدّامك"، لتقول كلَّ ما لم أقدر أن أقوله، كانت مرآتي، لساني المربوط، وخجلي المتراكم، في خجلي الأول من فتاةٍ عبرت بجانبي ولمحتني، كنت أضعف أمامها، كما قال هيثم، وكما غنّى تمامًا شعوري.

لكن لحظةً واحدةً طبعت كلَّ شيء، لم تغب عن ذاكرتي يومًا: كنت في السوق مع أبي وأختي. رأينا شريط كاسيتٍ جديدًا لهيثم يوسف في واجهة أحد الباعة، أمسكت به وكأنني أمسكت بالعالم، التفتُّ إلى أبي، نظر في جيبه، لم يكن يحمل ما يكفي للعودة إلى البيت وشراء الكاسيت، لحظةُ صمتٍ غريبة، ثم ابتسم، وذهب إلى بائعٍ آخر وأقنعه أن يشتري قميصه الذي كان قد اشتراه لتوّه قبل ساعات، وعاد إلينا، بالكاسيت في يده، وبصدره العاري إلا من “فانيلةٍ” بيضاء.

في طفولتنا، لم يكن الأبُ مجردَ والد، بل كان السقفَ والحيطانَ والمغسلةَ والفرشةَ والسُّلَّمَ الأولَ في كل شيء. كنا نكبر وهو يصغر، يذوب بين دفعات الخبز وركضة الباص، بين همهمات النوم وتنهيدات الخوف من الغد، لم يكن يتكلم كثيرًا، لكن عينيه كانتا تقولان كلَّ شيء.

وفي البيت، حين كان يعود متعبًا، متعرقًا، تُطفأ الأنوار وتُشعل الأغاني، كان يضع كاسيت هيثم يوسف دون أن يقول لنا: “اسمعوا”، كأنه يعرف أن هذا الصوت سيفعل ما لا تفعله الكلمات. لم يكن يعرف أنني، وأنا طفل، كنت أراقبه حين يُغمض عينيه عند المقطع الموجِع، وأشعر أن شيئًا ما بداخله ينهار بهدوء، لكنه لا يسقط. لم نكن نفهم معنى كلّ كلمة، لكننا فهمنا أن صوتَ هيثم يوسف يربطنا بهذا الرجلِ المتعبِ الذي لا يبكي.

صوتُ هيثم هو ما كان يجعل أبي قابلاً للبوح دون أن يتكلم، وكلما سمعت “بس إنت وحدك”، كنت أعرف أن هناك حبًا خفيًا، لا نعرفه، يحمله لنا، حبٌّ لا يحتاج إلى هدايا ولا إلى حضنٍ صريح، بل إلى كاسيتٍ يعمل، وغرفةٍ صغيرة، وصمتٍ طويل.

الطفولة لم تكن سهلة، كانت تمر بلقمةٍ مؤجَّلة، بشتاءٍ طويلٍ بلا صوف، وبصوتِ هيثم يوسف الذي يأتي كزائرٍ كريم، يُوزّع دفءَ الأغنية علينا بالتساوي، لم أكن أعلم وقتها أن ما كنا نفعله لم يكن فقط استماعًا، بل نوعًا من التربية العاطفية، كنا نتعلم، على مهل، أن نحبّ، أن نحزن، أن نكون أوفياء، من دون أن نُجرّب كل تلك المشاعر فعلاً.

هيثم يوسف، في طفولتي، كان الصديقَ الذي لا يُخيب، الذي لا يكبر ولا يبتعد، الذي يبقى صوتًا بجوارنا في الغرفة حتى حين ينطفئ كل شيء، حين نتشاجر كأطفال، ثم نرجع نبكي ونصالح بعضنا على صوته، حين تبكي أختي بلا سبب وتقول: "أغنيته وجّعتني"، فنفهم أنها كبرت قليلاً.

كنا نكبر معه، نكبر ونحن نسمع صوتَنا فيه، صوتَ أبينا فيه، صوتَ البيوتِ التي لا تُقفل، بل تغفو، هو الذي علّمنا أن الحنين يمكن أن يكون قويًّا كفايةً ليحميك، وأن الفقر لا يمنعك من الحلم، طالما هناك أغنيةٌ تحفظك من الانكسار.

لم أكن أعرف أن صوتًا يُمكن أن يكون هذا الرابطَ السريَّ بين أبٍ لا يعرف كيف يقول "أحبك"، وطفلٍ لا يعرف كيف يسألها.

لم يكن الكاسيت مجردَ موسيقى، كان لحظةَ حبٍّ عظيمةً من أبي، ولحظةَ انتماءٍ لصوتٍ كان يُربّينا ويُواسي جروحَنا الصغيرة.

هيثم يوسف لم يكن يومًا حالةً فنيةً عابرة، هو الصوتُ الذي لا يغيب عن يومنا، لا في الجامعة، ولا في زوايا التعب بعد العمل، في نقاشاتنا عن الحب، عن الفقد، عن الحنين، دائمًا ما يعود صوتُه ليقول لنا: "كلشي يذهب إلا المحبة"، ويُثبت أن هناك فنًّا يتجاوز الأُذن ليعيش في القلب.

موسيقاه ليست صاخبة، بل متماسكة، عميقة، ودافئة، كأنها مصنوعةٌ من ضوء الغروب، فيها حنين، فيها صدق، فيها كلام يُشبهنا، ويُشبه كلَّ من نشأ على هامش العالم الكبير، لكنه لم يفقد حلمَه بالحب، بالحياة، بالغناء.

هيثم علّمنا طُرقَ الحبّ الهادئ، الحزين أحيانًا، لكن الشريف، قال لنا، بالأغنية، ما لم يقله أحد: أن نحبّ بصمت، أن ننتظر، أن نحزن برُقيّ، وأن نلمس الصعب، وأن نُصدّق الممكن.

اليوم، حين أستمع إليه، لا أعود فقط إلى الأغنية، بل أعود إلى تلك اللحظةِ التي خلع فيها أبي قميصه ليشتري لنا صوتًا مؤدّبًا يحمينا من الرداءة وسوء الكلام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

القضاء يحسم 853 طعناً على نتائج الانتخابات

الداخلية: العراق بنى منظومة متطورة لمكافحة المخدرات

التخطيط تتجه لتوسيع الرقابة النوعية لتشمل الصادرات والواردات عالية المخاطر

قبول 1832 طالباً في المنح المجانية لكليات المجموعة الطبية

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية
ثقافة

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

بغداد/المدى أفاد مصدر رسمي، اليوم الأحد، بأن الهيئة القضائية للانتخابات أصدرت أمراً باستبعاد المرشح الفائز عن محافظة نينوى نجم الجبوري. وقال المصدر، إن "الهيئة القضائية قررت استبعاد الجبوري من الانتخابات"، من دون ذكر مزيد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram