TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الطائفية المتخيلة : هل هي نظام جديد للحقيقة

الطائفية المتخيلة : هل هي نظام جديد للحقيقة

نشر في: 5 مايو, 2025: 12:01 ص

محمد صبّاح

في زمن الطوائف، لم يعد الخير والشر سوى تصوّرين يتلاعب بهما السادة الجدد، أولئك الذين لا يسألون عن الحقيقة، بل عن القوة التي تمنحهم الحق في تسميتها. لم تعد القيم الأخلاقية في الإنجاز الطائفي موضوعاً للبحث والتفكير النقدي، بل أضحت تمثيلات ثابتة تتحكم فيها علاقات القوة والجماعة. تصبح القضية الحقيقية في مثل هذه الحالات هي كيفية استحواذ كل طائفة على «الحق»في تعريف الخير والشر. هذا التحوّل في مفهوم الخير والشر هو ما يُحتّم علينا التفكير بجدية في التحول الذي أحدثته الطائفية في بنية المجتمع.
كما يؤكد عزمي بشارة، فإن الطائفية « تعكس وظيفة الهوية بإحلالها محل القيم، والتعصّب محل المعايير الأخلاقية، ما يؤدي إلى طمس الحدود بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة، وإحلال الحدود بين «نحن» و«هم» في مكانها » .
_الطائفية كغريزة قطيع :
ليست الطائفية خطأ في مسار الإنسانية، بل هي التعبير الأكثر صدقاً عن غريزة القطيع حين تُرفع إلى مستوى الميتافيزيقا.
في هذا السياق، فإن الطائفية لا تمثل مجرد انحراف اجتماعي أو سياسي، بل هي ظاهرة تكشف عن الفشل في تطوير قيم فردية أو مشتركة بين أفراد المجتمع. بدلًا من ابتكار قيم جديدة تناسب الجميع، وجد الكثيرون في الطائفية ملاذاً آمناً، فاستعاضوا عن ذلك بالاحتماء في جدران الهويات المغلقة. على غرار غرائز القطيع في الطبيعة، لا يُسأل الإنسان الطائفي عن «ما هو » بل عن «ما يمثله»بالنسبة للجماعة.
_ التحول الأخلاقي والسياسي:
لقد حلَّت القسمة بين «نحن» و«هم» محلَّ القسمة القديمة بين الخير والشر، وهي بذلك ليست مجرد انحراف أخلاقي، بل تحول في بنية الحكم ذاته.
في هذا الأمر، لا يمكن النظر إلى الطائفية باعتبارها مجرد سياسة طائفية تميز بين جماعة وأخرى، بل هي أداة لتأسيس مفهوم جديد للشر والخير. في ذلك، يصبح «الآخر » مجرد تهديد لا يُسأل عن دوافعه أو دواعيه، بل يُفترض أن يكون شريراً لمجرد انتمائه إلى «الآخرين». قد يبدو هذا المبدأ مشابهاً لتفريق كارل شميت بين «الصديق» و«العدو»، لكن في حال الطائفية، هذا التمييز لا يقتصر على المجال السياسي فقط، بل يدخل في المجال الأخلاقي أيضاً.
_الطائفية كنظام للحقيقة:
إن الطائفية، بهذا المعنى، لا تصبح مجرد تصنيف اجتماعي، بل تتحول إلى «نظام للحقيقة». كما يشير ميشيل فوكو إلى أن « نظام الحقيقة لا يعتمد على ما هو صحيح فقط، بل يعتمد على من يملك الحق في قول ما هو صحيح». الطائفية، في هذا المضمار، لا تكتفي بتحديد ما هو «صحيح» أو «خاطئ» بل تحدد من له الحق في تحديد هذه الحقيقة. كل طائفة تصبح الحَكم في قضيتها الخاصة، وتمنح نفسها التفويض بتوزيع الحقائق، بينما تحجب هذا الحق عن الآخرين. يتم تأطير الأحداث والظواهر في ضوء معاييرها الخاصة التي تضمن هيمنتها على الحقيقة. وفي هذا الإطار، تصبح الحقيقة أداة للسلطة والتحكم، حيث كل طائفة تسعى لفرض نسختها الخاصة من الواقع، رافضةً أي شكل من أشكال الحوار أو النقد. كما يقول فوكو: « الحقيقة هي في النهاية نتاج علاقات السلطة، وتستمد قوتها من قدرة الجماعة على فرض وجهات نظرها على الآخرين» .
_الاختلال في التفكير والحكم:
إن هذا التأسيس الطائفي للمعيار يُنتج كائناً اجتماعياً لا يفكر إلا عبر ضمائر الجماعة، حيث يفقد الفرد قدرته على الحكم، ليس لأنه لا يملك معايير، بل لأنه يملك معايير مسبقة تجعله عاجزًا عن اختبار الحقيقة خارج السردية التي وُلد فيها. لا يبقى مجال للإنسان العاقل الذي يستطيع النقد والتفكير المستقل في مثل هذه الحالة. ففي زمن الطوائف، يتم اختصار الوجود إلى فئات مغلقة، حيث «نحن» في مواجهة «هم ».
لم يعد وجود الآخر يطرح أسئلة حول هويته أو دوافعه، بل صار وجوده تهديدًا يجب مقاومته.
_خروج من دائرة الطائفية:
وفي خضم هذا الوضع، يظل السؤال الأهم: هل يمكن للفكر أن يجد أفقاً خارج هذا الحصار؟ إن الطائفية ليست مجرد تقسيم اجتماعي بل هي حالة عقلية وسياسية تُعيد تعريف مفهوم الحقيقة، مما يجعل الخروج منها أمرًا صعبًا للغاية. لكن رغم هذا، هناك مجال للبحث عن سُبل للخروج من هذه الدوامة. ربما يكون أحد البدائل هو التفكير في بناء هويات مدنية قائمة على الحوار والتفاهم المشترك، بعيداً عن الانقسامات الطائفية.
وقد يتطلب ذلك إعادة بناء أسس السياسة والعدالة في المجتمع من خلال إعطاء الأولوية لقيم العدالة والمساواة، بعيدًا عن الهوية الطائفية الضيقة. ولكن حتى يتحقق ذلك، سيظل الفكر بحاجة إلى الخروج من هذا الحصار والتفكير في مستقبل يضمن فيه كل فرد حقه في التعبير عن نفسه خارج السياج الطائفي الذي فرض عليه.
_ الخاتمة:
في عالم الطوائف، حيث تتحدد الحقيقة وفقاً لما تُمليه حدود الجماعة، يصبح السؤال الأكبر ليس عن الحقيقة ذاتها، بل عن من يمتلك الحق في تعريفها. الطائفية، بوصفها فكراً سلطوياً ، لا تسمح بأي نوع من الحياد أو الموضوعية؛ لأنها تُعيد تعريف الصراع بين الجماعات باعتباره صراعاً وجودياً يتجاوز كل المعايير الأخلاقية التقليدية. في هذه الحالة، تصبح «العدو» ليس مجرد خصم سياسي أو فكري، بل هو تهديد وجودي يجب القضاء عليه. لا يمكن أن تُفهم الطائفية إلا من خلال مبدأ أساسي: «نحن»أو «هم»، حيث لا مجال لوجود أي نقطة وسط بين الطرفين.
إن المنطق الذي يحكم هذه الأنظمة الطائفية لا يقبل التعددية أو التسويات؛ فكل تسوية تعني الضعف، وكل تفاهم يعني تهديداً للأمن الجماعي. هكذا، تصبح السياسة في هذا السياق أكثر من مجرد تنظيم اجتماعي أو اقتصادي، بل هي تفعيل للقوة على الحياة نفسها، لأن من يسيطر على تعريف «العدو» يمتلك في ذات الوقت حق تعريف «الوجود». في زمن الطوائف، يصبح الصراع مع الآخر هو الصراع الذي يحدد من هو صاحب الحق في البقاء.
ولذلك، فإن الخروج من هذا الحصار الطائفي ليس مجرد تغيير في السياسة أو الهويات، بل هو تحدي لأسس الوجود الاجتماعي نفسه. إن الفضاء السياسي في هذا السياق لا يمكن أن يكون حيادياً ؛ إذ لا يُعترف بوجود خصم حقيقي يمكن التفاوض معه أو الحوار حوله. في النهاية، إن تفكيك الطائفية يتطلب أكثر من مجرد تجاوز الانقسامات السطحية؛ فهو يتطلب إعادة النظر في ماهية الصراع ذاته، وهل يمكن للإنسان أن يعيد صياغة وجوده بعيدًا عن هذه الفواصل الحادة بين « نحن » و” هم “ .
كاتب فلسطيني .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: رايات وولاءات

العمود الثامن: إخجلوا !!

الغاز الإيراني و الفرصة التاريخية

لنستفد من الصين بذكاء.. لا بانشاء جامعة متخصصة

بيت المنقسم والمعركة المؤجلة: أزمة الشرعية في ظل استحقاق انتخابي مضطرب

العمود الثامن: شيء مؤسف

 علي حسين في مرات كثيرة أجد البعض من القراء الاعزاء وهم يعلقون على مقالي اليومي عن "الكوميديا العراقية" بالقول: يبدو أنك تعبت، وقارئ عزيز آخر يكتب: لماذا هذا التشاؤم ونحن على ابواب انتخابات...
علي حسين

"صقور" الطرفين تتوعد: تفاؤل حذر بحل حزب العمال الكردستاني ذاتيًا

د. فالح الحمــراني يستبعد مسؤولو دول وخبراء، دخول الإعلان التاريخي بحل حزب العمال الكردستاني وإنهاء الأعمال القتالية حيز التنفيذ بالسرعة المنشودة، بالنظر إلى البنية التحتية العسكرية الضخمة للحزب وخريطة انتشار وحداته. ورجح مراقبون وسياسيون...
د. فالح الحمراني

التعليم بين الورقة والذاكرة الرقمية: جيلان لا يلتقيان!

د. طلال ناظم الزهيري في خطوة أثارت الكثير من الجدل، أعلنت السويد عن توجهها للعودة إلى استخدام الورقة والقلم في التعليم، معتبرة أن الأدوات التقليدية أكثر فاعلية في ترسيخ المهارات الأساسية لدى الطلبة. وبينما...
د. طلال ناظم الزهيري

شريك الأحلام بعراق آدمي.. عن علاء حسن

علي عبدالأمير عجام في الأسبوع الثالث بعد سقوط نظام صدام حسين، عملت على اصدار أول صحيفة يومية في بغداد لا تمدّ يدها إلى أملاك الدولة العراقية، بل يحسب لها انها أعادت للمطابع العراقية دورها...
علي عبدالأمير عجام
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram