TOP

جريدة المدى > عام > القلعة البيضاء.. تعكس التوترات الثقافية والهوية بين الشرق والغرب

القلعة البيضاء.. تعكس التوترات الثقافية والهوية بين الشرق والغرب

نشر في: 5 مايو, 2025: 12:02 ص

علاء المفرجي
أُسِر باحثٌ إيطاليٌّ شابٌّ في القرن السابع عشر أثناء إبحاره من البندقية إلى نابولي، وسُجِّل في القسطنطينية. هناك وقع في قبضة باحثٍ يُعرف باسم هوجا «المعلم» - وهو شبيهٌ له تمامًا. في السنوات التي تلت ذلك، يُعلِّم العبد سيده العلوم والتكنولوجيا الغربية، من الطب إلى الألعاب النارية. لكن هوجا يريد أن يعرف المزيد: لماذا هو وأسيره هما الشخصان اللذان هما عليهما، وهل يُمكنهما، في ظل معرفة كلٍّ منهما بأسرار الآخر الأكثر حميمية، تبادل الهويات. تدور أحداث رواية « القلعة البيضاء» في عالمٍ من المعرفة الرائعة والوحشية المُرعبة، وهي انتصارٌ للخيال مُلوَّنٌ ومُزخرفٌ بدقة. ترجمتها من التركية فيكتوريا هولبروك.
تبدأ القصة برواية مباشرة بضمير المتكلم عن مصائب عالم إيطالي شاب، وقع في أسر قراصنة أتراك أثناء توجهه من موطنه البندقية إلى نابولي في القرن السابع عشر. أُحضر إلى إسطنبول وسُجن. بعد أن أقنع آسريه بأنه تدرب في إيطاليا كطبيب، وجد نفسه مدعوًا لعلاج الجميع، من زملائه السجناء إلى الباشا. بذكائه الفائق وحسه السليم، نجح في معظم الحالات في إيجاد علاج. شيئًا فشيئًا، نال إعجاب الباشا، الذي قدمه عبدًا لصديقه، عالم غريب الأطوار يُدعى خوجا فقط، وهي كلمة تعني، كما أخبرنا، «سيد».
انبهر الشاب الإيطالي برؤيته الأولى لهوجا. يقول الراوي: «كان الشبه بيني وبين الرجل الذي دخل الغرفة مذهلاً! كنت أنا هناك... في تلك اللحظة الأولى، هذا ما ظننته». يتضح أن هوجا شخصية عازمة، مفعمة بالحماسة الغريبة، وترغب في تعلم كل شيء عن الغرب، وخاصة علومه؛ فيأمر توأمه المتطابق أن يعلمه كل ما يعرفه. وعندما يتقن كل شيء، سيُعتق العبد.
«القصر الأبيض» للكاتب التركي أورهان باموق، الصادرة ترجمتها العربية عن دار المدى بترجمة عبد القادر عبد اللي، التي نُشرت عام 1985، تُعدّ من أبرز أعماله التي تعكس التوترات الثقافية والهوية بين الشرق والغرب. تدور أحداث الرواية في القرن السابع عشر بمدينة إسطنبول، حيث يُؤسر عالم إيطالي شاب ويُصبح عبداً لدى عالم تركي يُدعى هوَجَة، الذي يشترك معه في شبه مدهش في الملامح. تتطور العلاقة بينهما من عبودية إلى تبادل للأدوار والهويات، مما يثير تساؤلات حول الذات والسلطة والمعرفة.
تستكشف الرواية مسألة الهوية من خلال التبادل بين الشخصيتين. فهوَجَة، الذي يمثل الشرق، يسعى لاكتساب المعرفة الغربية لتقوية الإمبراطورية العثمانية، بينما يسعى العالِم الإيطالي، الذي يمثل الغرب، لفهم الثقافة العثمانية. هذا التبادل لا يقتصر على المعرفة فحسب، بل يمتد إلى تبادل الأدوار والهويات، مما يُظهر هشاشة الحدود بين الشرق والغرب .
العلاقة بين السلطة والمعرفة، هو ما تُبرزه القلعة البيضاء حيث يُطلب من العالِم الإيطالي تعليم هوَجَة العلوم الغربية. لكن مع مرور الوقت، يُلاحظ العالِم الإيطالي أن هوَجَة يمتلك طموحًا كبيرًا لاكتساب هذه المعرفة، مما يُثير تساؤلات حول من يمتلك السلطة الحقيقية: المعلم أم المتعلم؟ هذا التبادل في الأدوار يُظهر كيف يمكن للمعرفة أن تكون أداة للسلطة والتأثير.
بعد أكثر من عقد، يُصرّ هوجا على أن يجلس نظيره أمامه على طاولة فارغة، ممسكًا بالورقة والقلم ليكتبا قصص حياتهما لبعضهما البعض في طقوس مطولة ونرجسية من كشف الذات، تسبر أغوار ذلك اللغز الكبير: الحقيقة في مواجهة الواقع. يقول لنا الراوي: "وهكذا، في غضون شهرين، تعلمتُ عن حياته أكثر مما استطعتُ تعلمه في إحدى عشرة سنة". ويضيف بحماس: "شجعته، ربما لأنني شعرتُ حينها أنني سأتبنى أسلوبه وقصة حياته لاحقًا".
، يُظهر باموق من خلال الرواية التوترات الثقافية في تركيا بين التقليد والحداثة، وبين الشرق والغرب. تُعد إسطنبول، بموقعها بين القارتين، رمزًا لهذا التلاقي الثقافي. يُجسد هوَجَة، الذي يسعى لاستعادة عظمة الإمبراطورية العثمانية، التحديات التي تواجهها تركيا في محاولاتها للتوفيق بين تراثها العثماني والضغوط الغربية .
تستند الرواية إلى مفاهيم فلسفية حول الهوية، خاصة تلك المتعلقة بالذات والآخر. من خلال التبادل بين الشخصيتين، يُظهر باموق كيف يمكن للهوية أن تكون متغيرة وغير ثابتة، مما يُثير تساؤلات حول مفهوم الذات في الفلسفة الغربية والشرقية على حد سواء .
"القصر الأبيض" تُعدّ دراسة عميقة في التوترات الثقافية والهوية، وتُظهر كيف يمكن للمعرفة والسلطة والهويات أن تتداخل وتُعيد تشكيل نفسها. من خلال الشخصيتين الرئيسيتين، يُقدم باموق رؤية نقدية للمفاهيم الثابتة حول الشرق والغرب، مما يجعل الرواية عملًا أدبيًا وفلسفيًا غنيًا يستحق القراءة والتأمل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

نجيب محفوظ وحياة الكتابة

صفقة فاوستية بين الانسان والذكاء الاصطناعي، لمن ستكون الغلبة؟

وداعاً موفق.. وستبقى معنا وبيننا.. تحيا فينا، ولا يمكن أن يجرفك تيار النسيان

الصوت وحده

الشعراء أرواح المدن الحية

مقالات ذات صلة

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع
عام

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع

علاء المفرجي الفنان العراقي ناظم رمزي (1927 – 2013)، هو أحد أشهر الشخصيات العراقية في تطوير فن الطباعة وحروف الطبع والفوتوغراف والفن التشكيلي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ناظم رمزي المولود في بغداد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram