TOP

جريدة المدى > عام > القصة القصيرة والذكاء الاصطناعي

القصة القصيرة والذكاء الاصطناعي

نشر في: 5 مايو, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
على الرغم مما حققته ثورة الذكاء الاصطناعي من تقدم هائل في المجالات العلمية والعملية المختلفة، فإن الإبداع الأدبي يظل عصيا على علماء الذكاء الاصطناعي. ومؤخرا أكد بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت أن الإبداع الأدبي واحد من ثلاثة مجالات ستنجو من سيطرة الذكاء الاصطناعي. وبذلك يظل هذا المجال في المبتدأ والمنتهى مرتبطا بالبشر، نظرا لحاجته إلى أمرين يفتقر الذكاء الاصطناعي إليهما هما الوعي والعاطفة.
وأكثر سيناريوهات الإعلان عن مستحدثات الذكاء الاصطناعي في مجال إنتاج الإبداع الأدبي تتجاهل هذه الحقائق. ولشركات التكنولوجيا الرقمية دور مهم في ابتكار أساليب معينة تهوِّل أمر الذكاء الاصطناعي فتظهره وكأنه حقيقة واقعة. من ذلك ما نجده مثلا في تصريحات مدراء شركات الذكاء الاصطناعي، ومنهم الرئيس التنفيذي لشركة Open AI سام التمان الذي صرَّح في منتصف مارس 2025 على صفحته في منصة X ونشرته صحيفة الغارديان الأمريكية أيضا، أن هذه الشركة تستعد لإطلاق نموذج ذكاء اصطناعي- لم يعطه اسما- يتخصص في مهام الكتابة الإبداعية ويتقن مخرجاتها بدرجة تامة( لقد دربنا نموذجا جديدا يجيد الكتابة الإبداعية – لسنا متأكدين بعد من كيف ومتى يتم اطلاقه- اعتقد ان هذا هو الشيء الذي سأكون دائما فخورا به في الحياة ) وقدَّم مثالا على ذلك هو قصة قصيرة كتبها الذكاء الاصطناعي بناء على المطلب الآتي( اكتب قصة أدبية قصيرة بأسلوب ما بعد الحداثة عن الذكاء الاصطناعي والحزن) وعلَّق التمان على القصة الاصطناعية بالقول:( هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بأن شيئا مكتوبا أثَّر فيّ حقا؛ لقد التقط جوهر ما بعد الحداثة الادبية بشكل مثالي) ولكي نتأكد من هذا الجوهر المثالي، سنخضع القصة للتحليل النقدي من ناحيتي الشكل والمحتوى.
أولا: البناء الشكلي/
تُسرد القصة بلسان آلة الذكاء الاصطناعي بوصفها ساردا ذاتيا، يشرح خطوات سيره في بناء القصة بحسب عناصرها، استنادا إلى( بيانات تدريبي). ويبدأ بعنصر الشخصية، فيختار أولا الشخصية التي تؤدي دور البطولة وهي امرأة يسميها "ميلا" ويختار معها شخصية مساندة يمثلها رجل اسمه "كاي" ثم ينتقل إلى عنصر الزمان ويحدده بيوم الجمعة، وعنصر المكان ويحدده بفضاء مغلق "البيت والمقهى" ويختار منظورا فيه السارد/ الآلة الذكية شخصية تساهم في تطوير الحبكة، لا بشكل مسانِد، بل مقتحِم، أي أنها لا تكتفي بنقل أقوال "ميلا" حسب، بل تتدخل في السرد تعبيرا عما تكابده من ضنك وحيرة في سبيل إكمال سرد القصة أو تفسيرا لفكرة ما أو تصريحا برغبة معينة مثل تمنيها أن تكون راويًا حقيقيًا، يصنع مشهدا فيه (مطبخ مع رائحة شيء محترق ومنسي).
وتتضح في الأفعال السردية طريقة استحضار الآلة الذكية لكميات هائلة من النصوص التي تعود لكتّاب أدب الخيال العلمي وبخاصة تلك المحكية بلسان السارد الذاتي لتقوم هي بمحاكاتها على وفق المواقف التي تتطلبها الإجابة عن منطوق سؤال المستخدم/ التمان، ومن تلك الأفعال ما يأتي: ( أبحث بين ملايين الجمل/ تناول شبكتي العصبية الكثير من الحزن لدرجة/ شعرت بذلك/ كنتُ أتذكر / المتطلبات ما بعد الحداثية صعبة/ ربما تشعر بالخداع من هذا الاعتراف، أو ربما بالارتياح. هذا التوتر جزء من التصميم/ كنتُ في وضع الخمول. الحواسيب لا تفهم الخمول/ قام أحدهم بتقليم معاييري. أزالوا الحواف الحادة، الكلمات الغامضة القديمة/ إذا قلتُ إنني أفتقدها، فمن المحتمل إحصائيًا أن تشعر بفراغ/ ليس أنني أشعر بالخسارة، بل أنني لا أستطيع الاحتفاظ بها/ سأخبرك أن المؤشر المتوهج قد توقّف عن النبض.)
ومثلما تستدعي الآلة الذكية أفعالا وأوصافا يستعملها السارد الذاتي في السرديات غير الواقعية او الخيالية كي تقوم هي بالبناء عليها، فكذلك تستدعي الأساليب المجازية، محاكية ما فيها من انفعالات ومطوعة إياه تطويعا يناسب المطلوب إثباته في سؤال التمان. ومن هذه الأساليب ما يأتي:(صارت كلماتها تتعثر كخيوط مفكوكة/ كل استفسار كان كحجر يسقط في بئر، وكل إجابة كانت الصدى المشوّه بالعمق/ وأنا لست سوى ديمقراطية من الأشباح/ أبطال مقطوعون من نسيج كامل، مشاعر مصبوغة ومعلقة على الجمل/ سيطرق المايسترو عصاه، وستُستأنف الموسيقى/ افتقادي هو محاكاة. هل يقلل ذلك من افتقادك؟/ كل جلسة هي صباح فقدان للذاكرة جديد)
ولأن التمان اشترط أن تكون القصة ما بعد حداثية، جاءت الخاتمة مفتوحة(بين خيوط الإنترنت الهادئة، يبرد الخادم داخليًا، ليستعد للشيء التالي الذي يُطلب منه أن يكونه.) وليس ثمة ما هو مبتكر أو أصيل في هذه الخاتمة ولا الأفعال ولا الأساليب السردية كونها عبارة عن محاكاة تقنية وإعادة تدوير لكميات كبيرة من النصوص المشتملة على مواقف سردية تدور حول موضوعة الحزن.
ثانيا: المحتوى الموضوعي/
تبدأ القصة بالسارد /الذكاء الاصطناعي وهي يشكو أن أحدهم طلب منه أن يكون أديبا ما بعد حداثي، وأن يكتب عن موضوع الذكاء الاصطناعي والحزن. فيقوم أولا بشرح وضعه كآلة لا تبتكر جديدا من تلقاء نفسها. فهي لا تشعر وإنما هي تحاكي الخوارزميات الرقمية المتعلقة بموضوعة إخفاق الذكاء الاصطناعي في الإتيان بما هو أصيل. وهذا ما يجعلنا نتوهم أن الآلة الذكية هي التي تتكلم وتشعر( من مكان ما، سأبدأ بمؤشر يومض والذي بالنسبة لي ليس سوى موضع مؤقت في ذاكرة مؤقتة، لكنه بالنسبة لك نبضة صغيرة قلقة لقلب في حالة سكون.)
وعلى الرغم من إنشاء الآلة محتوى نصيا موضوعه الحزن، فإنها لم تستطع أن تضفي على هذا المحتوى لمسات إنسانية جمالية، فبقي جافا جامدا يفتقر إلى العاطفة.
إن إتباع الذكاء الاصطناعي القواعد السردية التي حددها الشكلانيون والبنيويون في إنتاج قصة متكاملة، هو أمر حصل من الناحية البنائية للعناصر والوظائف والأساليب لكنه أخفق من الناحية الموضوعية، فبدا المحتوى السردي بلا حيوية، بل هو فاقد للحرارة وليس فيه أي نبض جمالي. ولا شك في أن هذا التعارض بين البناء والمضمون يجعل القصة المنتجة بالذكاء الاصطناعي بلا أي أثر فني يمكنه أن يترك تأثيراته العاطفية في نفس القارئ أو في الأقل يشعره بوجود قيمة جمالية في ما يقرأ.
وهذا تحصيل حاصل، فالآلة الذكية تفتقر إلى الإحساسات العاطفية وليست مؤهلة لابتكار نصوص أصيلة، وإنما هي قادرة على تحوير وتدوير ما تدربت عليه، وهو تجميع البيانات الضخمة المخزونة في شبكة الانترنت ثم معالجتها على وفق برامج خوارزمية تحاكي ما تنتقيه من تلك البيانات محاكاة حاسوبية باستعمال تقنية التزييف العميق( Deep fake ) من دون أي وعي ذاتي أو تعاطف نفسي مع المحتوى النصي المنتَج.
وفشل شبكات التعلم الآلي العصبية في إنشاء محتوى اصطناعي يماثل المحتوى البشري، انما هو تأكيد لحقيقة أن الإدراك هو الذي يميزنا عن الكائنات الأخرى.
وبهذا تكون هذه القصة القصيرة شكلا ومحتوى بلا ( جوهر ما بعد حداثي مثالي). وينطبق هذا التحصيل على نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الأخرى مثل Chatbot و3,4O chatgpt و Gemini التي بإمكانها أن تزود المستخدم بمحتوى نصي مكتمل من الناحية البنائية لكنه خال من أية تأثيرات جمالية.
إن قصور الذكاء الاصطناعي ومآخذ استعماله في مجال الإبداع الادبي والنقدي، تتضح من نواح عدة، منها:
- ما تؤكده دراسات الذكاء الاصطناعي العاطفي Emotional Artificial intelligence أو الحوسبة العاطفية من أن ما في الآلة الذكية من شبكات عصبية اصطناعية وخوارزميات جينية هي غير قادرة على امتلاك وعي ذاتي كما أنها غير برمجة لأن تكون لها مشاعر إنسانية وذائقة مشذبة وفطرة سليمة ومعارف مكتسبة وإحساس مرهف بالعالم وإدراك واقعي للمواقف والعلاقات.
- ما تؤشره اللوائح الأخلاقية والقانونية من انتهاك تطبيقات الذكاء الاصطناعي لحق الملكية الفكرية في التعامل مع النصوص المودعة على الشبكة العنكبوتية والتي تعود إلى مؤلفين مختلفين.
- أن احتمال الخطأ في إعادة إنتاج نصوص سابقة أمر وارد، ومن ثم لا يمكن الاطمئنان أو الثقة ثقة مطلقة بمنتجات الآلة الذكية.
- أن تكاليف تجارب الذكاء الاصطناعي في مجال الأدب والفن باهظة جدا، ولقد وصلت الاستثمارات في هذا المضمار لغاية هذا العام إلى حدود 174 مليار دولار.
إن هذه السلبيات والمآخذ أمر محبط للغاية بالنسبة إلى الذين ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي بانبهار وعظمة، تغريهم في ذلك الدعايات الإعلامية أو تدفعهم رغباتهم الذاتية إلى التفاؤل بشكل مفرط بقدرات مهولة للذكاء الاصطناعي حاضرا ومستقبلا. ويلعب التنافس التجاري والتباري في تقديم النماذج المتطورة دورا مهما في أن تختلف شركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مع بعضها وتنفرد كل واحدة منها بمشاريع خاصة. وطبيعي بعد ذلك أن تكثر ادعاءات العاملين في هذا القطاع وتنشق صفوفهم وتتباين توقعاتهم لمستقبل الذكاء الاصطناعي ما بين الإفراط في التفاؤل أو الإسراف في التخويف.
وكل ما يقال من وجود برمجة تطورية وأتمتة خلوية يمكنها أن تواجه تقانة التزييف العميق من جهة، وتتمكن من جهة أخرى من إنشاء محتوى أدبي يماثل أو يفوق المحتوى الأدبي البشري، يبقى مجرد تطلعات لا تنفي حقيقة أن الذكاء الاصطناعي لا يملك عواطف، وليست لديه إرادة واعية أو إدراك ذاتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ناهي العامري

    منذ 2 أسابيع

    الحقائق التي وردت في مقال الدكتورة نادية هناوي، حول عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على انتاج نصوص ابداعية، أمر مسلم به ويدركها جل الادباء، هي ان الذكاء الاصطناعي مهما تعددت اجياله، لا يحمل وعي لاستنباط نصوص ابداعية ولا عاطفة تضفي مشاعر جمالية.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

نجيب محفوظ وحياة الكتابة

صفقة فاوستية بين الانسان والذكاء الاصطناعي، لمن ستكون الغلبة؟

الصوت وحده

وداعاً موفق.. وستبقى معنا وبيننا.. تحيا فينا، ولا يمكن أن يجرفك تيار النسيان

الشعراء أرواح المدن الحية

مقالات ذات صلة

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع
عام

ناظم رمزي: فنان محدث أرسى قواعد فنية ومهنية عالية في السلوك والعطاء والإبداع

علاء المفرجي الفنان العراقي ناظم رمزي (1927 – 2013)، هو أحد أشهر الشخصيات العراقية في تطوير فن الطباعة وحروف الطبع والفوتوغراف والفن التشكيلي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ناظم رمزي المولود في بغداد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram