TOP

جريدة المدى > سياسية > الجفاف يقتل يوم "السنارة".. العراق يفقد طقساً شعبياً عريق

الجفاف يقتل يوم "السنارة".. العراق يفقد طقساً شعبياً عريق

نشر في: 6 مايو, 2025: 12:08 ص

 بغداد / كريم ستار

لطالما كان يوم الصيد العراقي، المعروف شعبيًا بـ”يوم السنارة”، مناسبة سنوية ينتظرها الصيادون والهواة بشغف، يخرجون خلالها إلى ضفاف الأنهار في مختلف أنحاء العراق حاملين سناراتهم ومعداتهم البسيطة، يقضون ساعات طويلة في ممارسة هواية توارثوها جيلاً بعد جيل. لكنه تقليد بدأ يخبو شيئًا فشيئًا، حتى أصبح اليوم في طي النسيان، بعدما كانت الأنهار تعجّ بالحياة والصيادين.
هذا اليوم، الذي ارتبط بذاكرة الكثير من العراقيين كطقس ترفيهي وشعبي، كان يرمز لأكثر من مجرد هواية. كان يمثل صلة وثيقة بين الإنسان والماء، بين الفرد والطبيعة، وبين العراقي وهويته البيئية والتراثية. غير أن التغيرات البيئية الحادة التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها الجفاف ونقص المياه، غيّرت ملامح المشهد الطبيعي، وساهمت في تراجع هذه الظاهرة الشعبية، حتى اختفت من المدن الكبرى وبدأت تتلاشى من الريف أيضًا.

نهر بلا صيادين
في العاصمة بغداد، يتذكر الحاج حيدر كاظم (63 عامًا) أيام “السنارة” بحنين واضح. يقول في حديثه للمدى: “كنا نخرج من الفجر إلى نهر دجلة، نجتمع بالعشرات. نغني، نضحك، ننتظر السمك كأننا ننتظر رزقًا من السماء. الآن، بالكاد ترى أحدًا عند النهر، وحتى الماء أصبح نادرًا”. ويضيف: “الأسماك تراجعت بشكل كبير، والمياه صارت ملوثة أو قليلة. لم يعد للصيد متعة ولا جدوى، لا للأسماك ولا للناس”.
تشير التقارير البيئية إلى أن منسوب المياه في الأنهار العراقية تراجع بأكثر من 60% خلال السنوات الأخيرة، نتيجة لانخفاض معدلات الأمطار، والسياسات المائية غير المتوازنة من دول الجوار، لا سيما تركيا وإيران، إلى جانب غياب خطط وطنية واضحة لإدارة المياه.
وحذر الخبير المائي والزراعي، تحسين الموسوي عبر المدى من خطورة هذا الامر بالقول: "نمرّ بظرف بالغ الخطورة مع دخولنا العام 5 على التوالي من الجفاف، خاصة بعد إعلان وزارة الموارد المائية أن المخزون الاستراتيجي لا يتجاوز 11 مليون متر مكعب، في حين يُتوقع أن يتبخّر نحو 6 مليارات متر مكعب خلال الصيف المقبل". ويضيف: "هناك تهديد مباشر يمسّ مياه الشرب، والثروة السمكية، والأهوار، والبساتين، ما ينذر بأزمة حادة وواسعة النطاق، لافتا الى ان: "إدارة ملف المياه تعاني من ضعف كبير، ويجب تكثيف الضغط على الجانبين التركي والإيراني لزيادة الإطلاقات المائية"
وأكد الموسوي للمدى: "أن الجريان البيئي عنصر أساسي في الحفاظ على توازن الأنهار والمسطحات المائية، كونه يدعم التنوع البيولوجي ويمنع تدهور النظم البيئية، واحذر من حصر الاهتمام بمياه الشرب والزراعة على حساب هذا الجانب الحيوي".

تدهور الحياة المائية
تُعدّ الأسماك من أكثر الكائنات الحية تأثرًا بهذه الأزمة، حيث بات الصيد في الأنهار العراقية أمرًا نادرًا، لا بسبب قلة الصيادين، بل بسبب قلة الأسماك نفسها. ويؤكد المهندس البيئي أحمد علي، أن “الأنهار أصبحت فقيرة بالحياة المائية، ليس فقط بسبب قلة المياه، بل أيضًا بسبب التلوث، والصرف الصحي، ورمي النفايات الصناعية والزراعية في مجاري الأنهار”. ويتابع: “كنا نرصد أكثر من 20 نوعًا من الأسماك في دجلة والفرات، اليوم بعضها اختفى تمامًا، والبعض الآخر مهدد بالانقراض، مما جعل نشاط الصيد غير مجدٍ ومكلفًا أحيانًا أكثر من منافعه”.

فقدان تقليد وطني
لم يكن “يوم الصيد” مجرد هواية، بل تحول في بعض المدن إلى مهرجان شعبي، تشارك فيه العائلات، وتُقام فيه المسابقات بين الهواة، وتُقدَّم الأكلات التقليدية التي تُحضّر من حصيلة الصيد. كما كان يمثل فرصة للتواصل الاجتماعي، ولمّ شمل الأصدقاء والأقارب، وفسحة للهروب من ضغوط الحياة اليومية.
تقول الناشطة الثقافية زينب عبد الله: “كان يوم السنارة حدثًا ينتظره الجميع. كان فرصة للتعبير عن ارتباطنا بالنهر كرمز للحياة. اختفاء هذا التقليد يعني فقدان جزء من ذاكرتنا الجماعية”. وتحذر زينب للمدى من: " أن غياب هذا النوع من الطقوس الشعبية يُسهم في تفكك العلاقة بين الأجيال الجديدة والبيئة. وتضيف: “الجيل الجديد لا يعرف شيئًا عن النهر، لا يعرف كيف تُصنع السنارة، ولا كيف يُنتظر السمك بصبر. وهذا أمر مخيف، لأنه يعني انقطاعنا عن جذورنا”.

آمال في الإحياء
رغم قتامة الصورة، هناك من يحاول إنعاش هذه العادة القديمة. بعض الجمعيات البيئية والشبابية بدأت بتنظيم فعاليات رمزية لإحياء يوم الصيد، وتوعية الناس بأهمية الأنهار وضرورة الحفاظ عليها. كما تُطلق حملات تنظيف للنهر، وورش تعليمية للأطفال حول الصيد البيئي وأهمية التنوع المائي.
يقول الشاب كرار محمد للمدى، أحد منظّمي حملة “أحياء دجلة”: “نحاول أن نعيد الناس إلى النهر، ولو ليوم واحد في السنة. نريد أن نذكّر الجميع بأن دجلة والفرات ليسا فقط مصدرين للماء، بل مصدر للحياة والتراث”. ويضيف: “لا يمكن أن نقبل أن يتحول هذا الإرث إلى مجرد ذكرى حزينة. نحتاج إلى خطة وطنية لإنقاذ الأنهار، وإذا عادت الأنهار، سيعود يوم السنارة، ومعه الكثير من الفرح المفقود”. يمثل اختفاء “يوم الصيد العراقي” مثالاً حيًا على حجم التحولات البيئية والاجتماعية التي يشهدها العراق. فليس فقط الأسماك هي التي غابت، بل غاب معها تقليد شعبي عريق، كان يربط الناس بالأرض والماء والتاريخ. وإذا لم تُتخذ خطوات جادة لإعادة الحياة إلى الأنهار، فإن ما تبقى من الذاكرة الشعبية قد يتبخر كما تتبخر مياهه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

مقالات ذات صلة

المشهـداني يقـدم فـي البـرلمان أسبـاباً دينية لدعم إيران: طهران لا تريد توريطنا بالحرب
سياسية

المشهـداني يقـدم فـي البـرلمان أسبـاباً دينية لدعم إيران: طهران لا تريد توريطنا بالحرب

بغداد/ تميم الحسن وراء الخطابات الحماسية في جلسة البرلمان الأخيرة - غير مكتملة النصاب - المؤيدة لإيران، كان هناك حديث عن "شبهات فساد" في ملف الدفاع الجوي. وغاب نحو 200 نائب عن الجلسة التي...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram