نينوى / نور عبدالقادر
في قلب الموصل القديمة، يقف "باب السراي" كأنفاس الماضي العطرة، ينبض بالحياة بين الأزقة المبلطة بالحجر والدكاكين التي تفيض بألوان البهارات الزاهية وروائح العطارة النفّاذة. هنا، تمتزج رائحة القهوة المطحونة بأعواد القرفة، وتتسلل نفحات العنبر والصندل من حوانيت العطارين، بينما تلمع الأقمشة المطرزة بألوانها الحارة تحت ضوء الشمس المائل.
باب السراي ليس مجرد سوق، بل معرض حيّ للذوق الموصلي الأصيل، حيث يتمازج الصوت بالحركة، والحرفة بالهوية. بين رنين الأدوات المعدنية، وصوت النداءات القديمة، يُحكى تاريخ لا تكتبه الكتب بل توثقه الأيدي التي لم تتوقف عن العمل رغم كل شيء.
على بُعد خطوات من باب السراي التاريخي، يقف محل "العبيدي" كأحد أقدم المعالم الحية في مدينة الموصل، شاهداً على أكثر من 140 عاماً من العطاء. هنا، حيث يلتقي عبق التاريخ برائحة العسل وألوان الطحينية، تُروى قصة عائلة امتهنت صناعة العسل والطحينية(الراشي) ، وورّثت أسراره عبر أربعة أجيال.
يقول الحاج موفق العبيدي، صاحب المحل وأحد أبرز خبراء العسل والطحينية في العراق:"لا أستطيع فراق باب السراي… إنه نبضنا ونبض الموصل، هنا وُلدت مهنتي، وهنا أريد أن أنقلها لمن بعدي."
من خلف منضدة خشبية لم تتغير ملامحها منذ عقود، يتذكر الحاج بداياته في المهنة التي ورثها عن أجداده، ويؤمن بأن الحفاظ على جودة المنتج وصدق التعامل هما سر البقاء. ابنه عمر، الذي شبّ في كنف المحل، يسترجع ذكرياته قائلاً: "كنت أخرج من المدرسة مسرعاً لجلب طعام والدي الحبيب، وأجلس بجواره أتعلم فنون العمل… عشقت المكان قبل أن أعقل اسمه."
رغم تغير الزمن واشتداد المنافسة وظهور الغش التجاري، ظلّ "العبيدي" محافظاً على سمعته الأصيلة، مستنداً إلى مبادئ بسيطة: الصدق، الجودة، واحترام الزبائن.
في غرفة صغيرة خلف المحل، يُحتفظ بأرشيف عائلي يضم دفاتر مبيعات تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، مكتوبة بالخط العثماني، وصوراً لأجداد العائلة وهم يفحصون خلايا النحل في بساتين الموصل القديمة.
ولا يقتصر زبائن "العبيدي" اليوم على أبناء المدينة أو محافظة نينوى، بل يقصده الناس من بغداد والأنبار وحتى من خارج حدود العراق، بحثاً عن العسل الأصلي والطعم الذي لا يُشترى من الأسواق التجارية.
ورغم التحديات التي مرت بها المدينة من أزمات اقتصادية وحروب، بقي المحل ثابتاً في مكانه، تحيط به جدران تنبض بذكريات الموصل، وساعات عتيقة تحكي الزمن، ودفاتر شاهدة على رحلة عائلة تمسكت بميراثها كتمسكها بالأم.
في زقاق ضيق تفوح منه رائحة الغار والزيتون، كان قصي القزاز امام دكانه الصغير في سوق باب السراي . لم يكن مجرد لم تكن مجرد مهنة ، بل امتداد لحكاية بدأت قبل عشرات السنين، حين كان جده يعلّمه كيف يُمسك بقطعة الصابون الحلبية، ويخبره عن المدينة التي جاءت منها.
"هذا الصابون جاي من حلب، من أيام زمان وهُم يسووه بنفس الطريقة..."، هكذا كان يقول له الجد، بينما يمرر أصابعه على سطح القطعة الخضراء الداكنة.
قصي اليوم هو حامل ذلك الإرث. لم يختر مهنة بيع الصابون، بل هي التي اختارته، تمامًا كما اختارت حلب أن تكون مدينة الصابون. يقول قصي: "إحنا نستورده من هناك، لأن المواد كلها طبيعية، زيت زيتون وزيت غار، وما بيه أي مواد كيمياوية. الناس تحبه، لأنه نافع للشعر والجلد."
لكن القصة لا تتوقف عند الصابون. سوق باب السراي، حيث يقف دكان القزاز، ليس مجرد مكان للبيع، بل لوحة حيّة تنبض بالحرف والمهن القديمة. بين صانع النحاس وخيّاط العباءات، أصبح السوق ملتقى للزوار من كل الجنسيات، وكل من يمرّ لا بد أن يتوقف عند محل القزاز، يلتقط قطعة صابون، وربما حكاية.
يروي سمير الخيرو، صاحب محل غذائي، حكايته مع هذا السوق العريق.
"صارلي 60 سنة في هذا المحل"، يقول سمير، وقد خط الزمن على وجهه ملامح الخبرة. يتذكر أيام الطفولة عندما كان يرافق والده، طالبًا في المرحلة المتوسطة، ليتعلم أصول المهنة. "أحمد الله أني اكتسبت مهنة، لأن اكتسابها مهم في حياتنا"، يضيف بابتسامة يملؤها الرضا.
باب السراي، أحد أقدم أبواب المدينة، ليس مجرد ممر تاريخي، بل سوقٌ نابض بالحياة، تتنوع فيه المحال بين الألبسة والعطارة والصابون والعطور والمصنوعات النحاسية. "الميزة التي تميز هذا السوق هي الحفاظ على المهن القديمة وتوارثها عبر الأجيال"، يقول سمير، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الحرفيين الشباب اليوم هم أبناء وأحفاد من صنعوا تاريخ السوق.
رغم ذلك، لا يخلو المشهد من التحديات. "حركة الموصل جميلة، لكن نحتاج تسهيلات خاصة للتجار. هناك عراقيل أثناء الاسترداد"، يشير سمير، في حديثه عن التحديات الاقتصادية والإدارية التي يواجهها أصحاب المحال.
ورغم الضغوط، يظل باب السراي بالنسبة له أكثر من مجرد سوق. "لا أستطيع تركه، حتى عندما أشعر بالضيق، أذهب إلى نهر دجلة وأشم رائحة الهواء النقي"، يقول وهو ينظر عبر بوابة محله، كمن يودع ذاكرة لا تنتهي.
اليوم، أصبحت الموصل وجهةً للزوار من داخل العراق وخارجه. يتجول السياح في السوق، يلتقطون صورًا تخلّد المكان، ويشترون تذكارات تحمل نكهة الماضي.
هكذا، يظل باب السراي حيًا، ليس فقط بمحاله وبضائعه، بل برجاله الذين قرروا أن يكونوا جسرًا بين الماضي والحاضر.
في زقاقٍ من أزقة الموصل القديمة، وبين رائحة الأعشاب والتوابل التي تعبق في الأجواء، يقف محمود العطار خلف دكانه الصغير، حارسًا لإرثٍ عائلي لم تنل منه الحداثة. يروي للـ"مدى" حكايته، حكاية شابٍ لم تمنحه شهادته الجامعية وظيفة، لكن منحته المهنة ما هو أثمن: الكرامة والمعرفة.
يقول محمود: "تتعدد مناشئ العطارية، لكن أكثر بضاعتنا تأتي من الهند. نحن ورثنا هذه المهنة أبًا عن جد. الناس هنا تعرفنا منذ القدم". وعلى الرغم من حصوله على شهادة في إدارة الأعمال والاقتصاد، لم يجد فرصة عمل في مجاله، فكانت العطّارة ملاذه.
"هذه المهنة أنقذتني"، يتابع محمود بابتسامة، "منذ طفولتي وأنا أرافق والدي إلى المحل، أساعده وأخفف عنه عبء العمل. تعلّمت منه الكثير، ليس فقط في الأعشاب، بل في الصبر والتعامل مع الناس".
ويرى محمود أن جيل اليوم يهدر طاقاته في ممارسات لا تعود عليه بالنفع، موجّهًا رسالة إلى الشباب قائلاً: "أنصحهم بتعلّم مهنة يبدعون فيها، المهنة سلاح، إذا لم يحصل على وظيفة، تكون المهنة ملاذًا له. الإنسان الكاسب ملك نفسه، لا يحتاج لأحد".
بين عبق القرنفل والبابونج والزنجبيل، يقف محمود شاهداً على أن المهن المتوارثة ليست مجرد تجارة، بل حياة وكرامة، ومصدر فخر. وبين عبق الأعشاب وروائح العطور، وتحت ظلال المحال التي لا تزال تقاوم الزمن، يظل "باب السراي" في الموصل أكثر من مجرد سوق؛ إنه مرآة لذاكرة مدينة، ونبض حيّ لتراث ما زال ينبض بالحياة. هنا، تتحدث الجدران، وتروي المهن قصصها لكل من يمر، كأنها تهمس بأن الموصل، رغم كل ما مرّت به، لا تزال واقفة، تحفظ تاريخها بأيدي أبنائها، وتحيي حاضرها بنبض الحياة في كل زاوية.