هاشم شفيق
أصل إلى أربيل فجراً، للمشاركة في فعاليات وأنشطة وندوات معرض أربيل للكتاب في دورته السابعة عشرة من 9 إلى 19أبريل/نيسان 2025 تحت شعار " العالم يتكلم كردي".
لم أنم إلا بضع دقائق في الطائرة، بسبب الحركة الدائبة للمسافرين وبكاء الأطفال، ولنداء المضيفات على متن الطائرة وسير العربة، التي تجول لتمنحك الطعام والشراب والضجيج، مُضيّفة توقظك لتسألك إن كنت تريد شيئاً من "السوق الحرة"، السوق السائرة في ممشى الطائرة الضيّق، الذي لا يحتمل سير شخصين فيه، مثل أي طائرة أخرى.
لذا كنت صاحياً طوال ليل رحلتي، أقلّب صفحات حياتي، ولكأني أقرأ في كتاب مصنوع من مادة القلق، وبيان حالي يقول "على قلق كأن الريح تحتي"، فالشعر هو القلق بعينه، هو الحياة المتنوّعة والمليئة بالتجارب والسفر والتشرد والغربة، والجولان الدائم في قلب هذا العالم المضطرب أيضاً، بسبب الحروب وانتهاك حريات الإنسان الهش والضعيف والمرتبك والجائع، كما يحدث مع أهلنا في غزة والسودان من جرائم فاشية، عنوانها إبادة النوع والأصل والجذور الأولى للكائنات الراسخة في تربتها الوطنية.
عند باب الطائرة، وأنا أستعد للخروج منها، أجد شخصاً يحمل اسمي، تفرح أعماقي وتهلل في داخلها، كوني سأستعين بهذا الشخص، الذي سيسهّل دخولي دون عناء إلى أربيل.
أبتسم له، دلالة المعرفة المتبادلة، أسير معه مسافة قليلة، وهو يبتسم ويرحّب بي إلى أن نصل إلى صالة تراثية، يبدو أنها بهو التشريفات الخاص بزائرين معيّنين. بعد لحظات يطلب أحد الرجال المسؤولين جوازي ووسم حقيبَتي السفر، ويغيب وقتاً قليلاً، بعد أن يحضر لي فنجان قهوة وماء. أزجّي الوقت بهما إلى أن يعود، حاملاً جواز سفري ويشير إلى مكان فيه حقيبتاي الرابضتان قرب سيارة التشريفات.
في سفري لمعارض الكتاب دائماً أحمل حقيبتين، واحدة للملابس ومستلزمات السفر، وأخرى تكون شبه فارغة، أخصصها في عودتي للكتب الجديدة التي سأقتنيها، والتي ستكون معي طوال العام أقرأ في الكتب المقتناة، الكتاب تلو الآخر، حتى يحين معرض كتاب القاهرة وهو معرض عالمي وكبير، فيه أجد ما اشتهي من كتب جديدة وحديثة الصدور.
ما زلت في بهو التشريفات، وبدا لي أن هذا المكان هو جزء مقتطع من المطار ومخصص للشخصيات المشهورة. أعرف أنني لست شخصية مشهورة، فالشهرة يحملها المطربون ولاعبو كرة القدم والممثلون والمشعوذون ورجال المال والسياسة البارزون، أما الشعراء فهم كائنات العتمة، تعمل في الظل والعزلة والخفاء، مثل الغُرَيْر والخُلد وما شابه من القوارض، فهم بعيدون عن العيون، يقرضون الشعر ويبتكرون الصور ويجددون الحياة ويسائلون الأبدية عن معنى الوجود. بعد قليل سينجز كل شيء ببساطة، فتحملني السيارة مع شخص معنيّ بالأمر إلى الفندق الذي يقيم فيه المدعوون، من الكتاب والأدباء والفنانون والشعراء.
حين أصل إلى الفندق، وأصعد إلى غرفتي، في الحال أسدل الستائر، لأنام أربع إلى خمس ساعات متواصلة، بعدها أستفيق لأهيئ نفسي إلى الخروج والذهاب إلى معرض الكتاب المُقام في "بارك سامي عبد الرحمن"، وهو شخصية أدبية وسياسية كردية ومناضل معروف في الوسط الكردي والعربي كذلك.
أعرف أربيل جيداً، شوارعها، مقاهيها، أسواقها القديمة، قلعتها الدائرية الجميلة والتاريخية، دكاكينها التي تفوح بالأشذاء والأفاويه، وكذلك تفوح برائحة الزمان القديم والمعتّق في حجارتها وأبوابها ونوافذها. لا أمل أو أتعب من السير بين هذه الأماكن، الواقعة في جهة غامضة من القلب، كأربيل ودهوك والسليمانية الساحرة أيضاً في كل شيء، شأنها شأن المدن التاريخية، المدن الروحية التي تنام في أعماقك مثل بغداد والبصرة، وبعض المدن العراقية التي تترك علامة ووشماً في الطوايا والدواخل. السيارة التي حملتني من الفندق تصل إلى الجبل الورقيّ، وما أكثر الجبال في كردستان، وأعني بالجبل الورقي معرض الكتاب. أدخل إلى المعرض في واجهته أرى "دار المدى"، وهي في الحقيقة داري، فقد نشرت فيها أكثر من سبعة كتب بين رواية وترجمة وسيرة، وهي دار للأدباء العراقيين، كما هي دار للعرب أيضاً، فما أكثر الذين بزغوا ونشروا في رحابها الواسعة.
أجول بين العناوين الأخاذة والجديدة، فأنا كائن محب للكتاب بطريقة غير طبيعية، ومصاب بمرض جمع الكتب وقراءتها، وإذا كان لي من معبود فهو الكتاب حقاً، مع احتفاظي بالعمق الروحي للذات العليا. يسحرني الورق ورائحته النافذة، ولاسيّما في الكتب الطازجة والحارة، الصادرة حديثاً، وتسحرني العناوين فهي بالآلاف وكلها يختلف عن الآخر كالبشر، فهم بالمليارات ولكن ليس هناك من هو نسخة طبق الأصل عن الآخر إلا في ما ندر.
أدخل في عمق المعرض فأجده قد كبر واتسع وتجدد بالعناوين الكثيرة والدور الجديدة والمشتركين الجدد من الناشرين الكرد والعرب، إنه نوع من مهرجان مغسول بالضوء والكلمات والرؤى، فهنا تكمن أفكار المؤلفين وشغفهم الإبداعي وروحهم الساعية إلى بناء عالم آخر، عالم من الأفكار والرؤى والشغف في صناعة حياة مختلفة.
قدّم معرض أربيل للكتاب هذا العام نشاطات تجسّدت في ندوات أدبية وفكرية وثقافية وبحثية وشعرية، أقيمت على منصّة المعرض، المندمجة والممتدة مع مقهيين مجاورين للمنصّة، وعندما سألت أحد المسؤولين في هذا الشأن عن هذا التداخل المربك، أجابني بصريح العبارة: أن المكان مناسب جداً والاختلاط مع زوار المقهيين سيكون لصالح من سوف يعتلي المنصّة، فالذي يودّ سماع شيء ما، سيأتي ويجلس ليسمع، أما أن نعزل المكان عن عامة الجمهور فهو ليس في صالح المدعو إلى ندوة أدبية وفكرية، وقد جرّبنا هذا الأمر من قبل في قاعة معزولة ومقفلة، فالأديب الذي كان فيها وهو أشهر شخصية عربية، شعرية وفكرية، حين بدأت ندوته آنذاك لم يكن هناك أحد في القاعة، رغم الإعلان المسبّق عنها.
بعد مرور بعض الوقت من وجودي في أربيل، دُعيت إلى الذهاب مع مجموعة من الأدباء والصحافيين والإعلاميين والفنانين العراقيين والعرب إلى زيارة "مصيف صلاح الدين"، أما سبب الزيارة فهو اللقاء بالرئيس مسعود البارزاني. الطريق من أربيل إلى صلاح الدين شكّل للمدعوين الضيوف فرصة جمالية لرؤية طبيعة كردستان العراق، فصلاح الدين مكان ساحر ذو طبيعة تخلب اللب وتخطف الأبصار، ففيها شلالات وفيرة، وجبال شامخة، وأشجار لا تعد ولا تحصى، وسهول منقوشة بالزهور البرية وبكل أنواع الشجر المثمر من ثمار الدنيا، هذا عدا عمّا كان يبهجني أنا شخصياً وهو رؤية شجر السرو والآس والأرز والسدر والنخيل والصفصاف، والشجرتان الأخيرتان تشكلان عنواناً لأيّ مدينة عراقية، عربية أو كردية.
نصل إلى مقام كاكا مسعود، وهو مكان سبق لي أن رأيته في إحدى الزيارات السابقة، هناك سنلتقي بالجبل الآخر، وأعني هنا الرئيس مسعود البارزاني، المتحدث الدقيق، الذي يعرف كيف يزن كلامه وآراءه وأفكاره، عبر حديث هادئ ودافئ ومتزن، تتخلله بين حين وآخر ابتسامته، الدالة على الترحيب بالضيوف.