طالب عبد العزيز
قلتُ لأحدهم: ارفعْ يافطة النعي التي عند الباب. صورة مصطفى والكلمات تستدرُ عطف المارةِ القارئين، وفيهم من يُحزنه أمرُنا. في البدء، جمعتُ أطراف اليافطة، تنصيفاً، وتربيعاً هكذا، كما أفعل مع ورقة الـA4 لأجعلها في جيبي، لكنَّ الصورة تكسرت، بين طيّات التنصيف، والتربيع، والتثمين، الامر الذي لا أريده لها، أحسستُ بشيء من الجحود واللامبالاة، لذا آثرتُ طيّها، اسطوانيةً، وهكذا فعلت. لم تنل الطية الأولى من الصورة، ولا الثانية، لكنها أتت على شعر رأسه في الثالثة والرابعة، ثم اختفت ملامح وجهه، ودخل قميصه ظلام الطيات، ومعها راحت تختفي تباعاً كلمات السطور والتاريخ القريب، والمكان، وبقايا الدموع، ودونَ أنْ أشعرَ أحداً بذلك أدخلتها دُرجاً عميقاً في المكتبة، آمل ألّا أعثر عليه يوما ما.
كنتُ قد أمضيتُ ساعات الطريق الخمس الطوال التي بين بغداد والبصرة ناشجاً، ناحباً، أغالبُ وجعاً ودمعاً كثيراً، وحين بلغتُ البصرةَ كانت جنازة مصطفى محمولةً، داخل سيارة التاهو السوداء، وسط حشد الباكين الناحبين الناشجين من الاهل والأصدقاء في القرية، ثم، ومن فتقٍ صغير في الكفن أُذِنَ ليَ النظرُ في وجهه. لا أعرف ما إذا كان شحوب وجوه الموتى حقيقياً؛ أم هو الصورة المنقلبة في أعيننا عنهم، بفعل المحبة والفقد في آن! لكنني، وربما بفعل الرهبة من الموت لم أطل النظر في وجهه، وعبر الثواني المتاحات لي؛ كنت قد استعرضتُ ولادته، وطفولته، وصباه، وفتوته، وشبابه، والزغب الاصفرَ في ذقنه، وتسريحة شعره، وحقيبته التي يعلقها في كتفه، وحين سارت السيارة التاهو السوداء به كنتُ أظنّه سيأتي، ولو بعد حين، فطالما حملته ذات السيارة الى المدرسة.
في مجلس العزاء الذي أقيم بالحسينية القديمة؛ كنتُ قد استحضرتُ قصيدتي، التي كتبتها عقيب وفاة أحد الاقرباء، من آل عبد العزيز، أجدها تصلح لمقام كهذا، كنت قد سميتها(على أريكة الاسفار البعيدة) أقول فيها:
على أريكة الجريد ذاتها
التي ربطها بالحبال ورقعّها بالليف والفقدان
جدُّنا الأعلى عبد العزيز
ليس بعيداً عن حنفية الماء السبيل
وحيث كان يجلس آباؤنا أحمد، وعبد الله، وعبد العزيز، وعبد الجبار، ومحمود
جلسنا، أنا، وشاكر، وناصر، وحسن، وكاظم، ومصطفى
ملثمين، قلقين، وحيارى
تحجبُنا عن دِّكة المغتسل اليافطةُ السوداءُ، المنقوشة بالجبس
( لكلِّ أجل كتاب) ( إنَّ وعد الله حق)
تحدّث بعضُنا عن بيوت مهجورةٍ، تحت التراب
ورتَّب آخرون كلماتٍ، تُشبه النعوش الطائرة
كلماتٍ عن الغياب والسفر الطويل. .
وقال غيرُ واحد بأنَّ الوديانَ الفسيحة تضيق
في أمكنةٍ، وتتسعُ في أخرى
بيننا من قال بأنَّ الحياة بمعانٍ مبهمةٍ حقّاً، هناك
"الحياة" قال ولم يقلْ "الموت"!
كثيرون هم الذين تأمّلوا نعوشَهم محمولة
حيث ستعصف الريحُ المخبولة برمل المعنى
لكنَّ أحداً بيننا لم يقل شيئاً عن الاريكة
التي ظلّت تُربطُ صامتةً بالحبال
أريكةِ الجريد التي رقّعتها حكاياتُ النعوش
والغياب، والسفر الطويل
حيث كان يجلس آباؤنا، ونجلس اليوم
وحيث سيجلس أبناؤنا الآخرون.
حتى اللحظة هذه لم أهتدْ الى المكان الذي لا أضطرني فيه الى فتح طيّة اليافطة. ولا أعرف ما إذا كان الناس يحتفظون بمثل هذه أم لا؟ ولا أريد أنْ أعيد على أهل البيت استحضار ما أحاول نسيانه، لكنني، غير قادر على رمي اليافطة في النهر مثلاً، حيث غرقَ ومات فيه أحد أحفادي قبل أعوام ست، ثم، سأتذكر أيضاً بأنني كنت قد رميت أسلاب ابي في النهر ذاته بعد موته، وأنَّ مياه المدِّ أخذت يشماغه الكوفي، وعباءته، وما كان يستر جسده. الفقد وحشٌ قد لا يُتفادى بالنسيان، وربما مكث طويلاً في الروح، هناك من لا تستطيع يدُه تدوينَ كلّ شيء، أنا واحدٌ منهم، بكل تأكيد.