سلوان إحسان
في كتابه المرجعي"الجين الأناني" (1976)، قدّم عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكنز مصطلح "الميم الثقافي" (Meme) باعتباره وحدة نقل معرفي ثقافي تعمل كنظير للجين في علم الوراثة البيولوجية. فالميم، بحسب دوكنز، كيان عقلي ينتقل من عقل إلى آخر عبر التقليد، الحكاية، الطقوس، والتربية، حاملاً معه الأفكار والعقائد والممارسات التي تشكل مجمل سلوك الإنسان الجمعي، وتعيد تشكيل الإدراك والسلوك دون أن يشعر الإنسان بتورطه فيها. بهذا التصور، يغدو التاريخ الإنساني أرشيفًا حيًّا لدوائر ميمية متكررة، تتحرك بوعي أو بدونه، وتعيد إنتاج المأساة الإنسانية بوجوه وأسماء جديدة.
انطلاقًا من هذه الفرضية الميمية، تأتي قراءتي لرواية "الأميرة في رحلة طائر العقل" للروائي وحيد غانم (دار نينوى – دمشق، 2019) كتحليل سردي ميماتي يتقصى تحولات الرموز، وتكرار الأنماط الثقافية، وانبثاق التصورات القهرية من بنى متخيلة تُعاد هندستها في السرد. لم تكن قراءتي الأولى للنص كافية، بل احتجت إلى ثلاث قراءات كي أتبين العمق الشبكي الذي تبنيه الرواية، عبر نظام من الرموز والمطاردات المتكررة التي لا تهدف إلى "خلاص" بقدر ما تؤكد سطوة "ميمات الخراب" التي ترسم مصائر الشخصيات وتوجه حركتها.
الرواية، التي تقع في 392 صفحة، تنفتح على مهمة "عقلانية" ظاهرها سياسي وعسكري: تكليف الضابط شفيق الحلوجي من المقر الباغدي بملاحقة الأميرة البهائية الهاربة "خزال" أو "ثريا أفلاطوني"، وهي شخصية ذات صفات روحانية وجسدية ملتبسة، تمثل ما يمكن وصفه في التحليل الميمي بـ"ميم الخلاص الأنثوي" وهي صورة ثقافية عميقة تتكرر تاريخيًا بوصفها حلمًا بالخلاص أو الارتقاء. إلا أن هذا التكليف الظاهري يتحول شيئًا فشيئًا إلى رحلة عقلية – لا نحو الخارج بل نحو الداخل الممزق للذات العراقية، حيث تتداخل ميمات الطائفة، والسلطة، والخطيئة، والهوية، والتصورات الدينية الباطنية.
(أأنا العاشق؟ الظالم؟ الحلوجي، النقيب المتستّر؟ أأنا أنا أم هو أنا أم أنا لا أنا ولا هو أم أني هباء؟ ) ص145
خلال مطاردته، يجد الحلوجي نفسه في مواجهة طوائف ومخلوقات هجينة؛ من البازدرية والكاكائية والماسونية، إلى يهود وغجر وبلوش وشياطين وزواحف وأشباح. هذا الحشد المتخيل – والمتكرر بصيغ متغيرة – يمثل تجسيدًا حيًّا لما يسميه دوكنز بـ"ميمات التكاثر القهري"، حيث تنتقل الأفكار دون مساءلة، وتتحول إلى أنماط قسرية داخل النص، تصوغ العقاب والمكافأة، الموت والحياة. وتتحول الأميرة من شخصية تاريخية إلى "طيف مرسوم على سِجادة"، يخزنه البطل في جيب سرّي، كأثر ميمي تتكثف فيه المأساة والشهوة في آن.
هكذا يصبح السرد ذاته محفلًا ميميًا، لا ينفك يعيد إنتاج رموزه بوجوه متغيرة. يتخفى شفيق في هوية صديقه رضا الظالم، فيقع في قبضة النظام ذاته، ويُسجن ثم يُستعمل مطاردًا جديدًا، وتُكلّف مجموعته باغتصاب نساء أسيرات ظنوا بينهنّ الأميرة، لكنه يكتشف أن ما يطارده كان دائمًا تصورًا سرابيًا من تصوراته. هذه اللحظة تمثل ذروة المفارقة الميمية: البطل الذي ظن أنه يطارد الحقيقة يكتشف أنه محكوم بميمٍ فارغ يعيد إنتاج ذاته – صورة غير مستقرة تتبدل بين صفحة وأخرى.
إن السرد الدائري للرواية، وانتقالاتها بين الجبل والصحراء، والسجن والمطاردة، والماضي والمستقبل، ليست فقط أدوات روائية، بل تجليات لبنية ميمية قائمة على تكرار الخراب في كل دورة. ولذلك نقرأ، في مفصل سردي حاسم، أن الراوي المتخفي في صوت شفيق يصف رفاقه السجناء بأنهم: "أشخاص بلا ذوات لا ينتظرون سوى وسام الموت... وكان وجودهم ضرورياً لخلق توازن في الوجود من خلال شعورهم بعدم أهمية حياتهم". إنها ميمات الإلغاء الذاتي، حيث تتحول الحياة إلى تكرار غير واعٍ للعدمية، يشرعن العنف بوصفه تعبيرًا عن فقدان المعنى.
في القسم الأخير من الرواية، تهبط الرحلة جنوبًا نحو البصرة، حيث يُعتقد بوجود المحفل البهائي. تتقاطع هذه المرحلة مع مفاهيم ميمية عميقة تتعلق بـ"وحدة الوجود"، لكنها تُقدَّم بطريقة خادعة: لغة مملوءة بالتعويذ، مشاهد متشظية، محافل غامضة، ولهجات منقرضة، وكائنات خارجة من الأساطير. يحاول البطل – الذي غدا الآن جاسوسًا، مغتصِبًا، عاشقًا، ومأخوذًا بهلوساته – أن ينتزع صورته الأصلية من ظله الممزق في المرايا. لكن "خزال" لم تعد هناك، بل تغيب نهائيًا في نهاية الرواية، ويظل طيفها مختبئًا في السجادة المقدسة، تُسرق لاحقًا، وكأن الرواية تودع ميمها المركزي إلى اللاعودة.
بهذا التشظي، تتحول الرواية إلى سلسلة تناسخات ميمية؛ حيث تتكرر الحكايات بأقنعة لغوية جديدة، وتُعاد تسمية الطغيان بالبعث العقلي، ويُشرعن الخراب بوصفه توازنًا وجوديًّا. فكما يصرّح الراوي في مشهدٍ تأويلي شديد النبرة: "كانت أوهام حكاياتنا تستيقظ في داخلي كالنحيب البعيد... لم يسبق أن شعرت بإرث أسلافي يخالط دمي كما حدث في تلك اللحظة" (ص344). هذا النحيب هو بحد ذاته ميم: صوتٌ قديم يتكرر في الحكاية، كما يتكرر في التاريخ.
وفي لحظة تفكيكية فاصلة، يرد في نهاية الرواية: "أعلمني أبي أن المحفل الشرقي ما زال يعتمد تقسيماً بابلياً قديماً في تصنيف حكايات عالمنا، فيضع الجانب المأساوي في الواجهة في مقابل منبعه الذي هو اللذة" (ص345). إنه تصريح ميمي بامتياز، يُعلن استمرار التكرار الكارثي بوصفه بنية سردية وثقافية مهيمنة.
إن رواية "الأميرة في رحلة طائر العقل"، بهذا التكوين الميماتي المتشابك، لا تكتفي بأن تكون سردًا، بل تقدم نفسها كخرائط ميماتية لوهم الخلاص، وتشظي الهوية، وتكرار الخراب. وحيد غانم، من خلال هذه الرواية، لا يكتب عن "الأميرة" ولا عن "الحلوجي" فقط، بل عن الميم الثقافي ذاته وهو يعيد تشكيل المصير البشري بألف قناع، وألف سِجادة، وألف وهم.
الأميرة في رحلة طائر العقل: مقاربة معرفية في رواية الخراب والتكرار

نشر في: 7 مايو, 2025: 12:02 ص