نبيل عبد الفتاح
في عالمنا المتغير فائق السرعة، يبدو التجاور والتداخل.. ما بين الواقع الإنساني الفعلي ومشكلاته وتعقيداته، وبين ما كان يُعد من قبيل التخييلات الروائية، أو ما يطلق عليه في أزمنة سابقة الخيال العلمي، لا سيما في علاقة الإنسان بالآلة، ثم التقنيات فائقة التطور.
كانت العلاقة بين الإنسان والآلة.. جزءاً من بعض السرود الروائية، ثم تحولت إلى سرديات سينمائية حول الإنسان، والسيطرة التكنولوجية للإنسان الآلي، أو علاقة الإنسان بعالم من الكائنات الحيوانية أو الطيور المعروفة، وتعديلات في قدراتها، أو المتخيلة، والصراع بينها وبين الإنسان على الأرض، أو كائنات تأتي من عوالم أخرى، أو فضائية ذات قوة تدميرية هائلة، أو روبوتات تهيمن على الأفعال والسلوك الإنساني.
في كل هذه السرديات السينمائية، أو الدرامية التلفازية، ثمة غرابة، وتخييلات جامحة في السيناريوهات، والحوار، ومع الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، بات التوظيف لتقنياتها المتطورة في تنامٍ مستمر وسريع جداً، ومتطور للتكنولوجيات – بما فيها الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي – وفي الغالب ينتصر العقل، والفعل الإنساني.. على هذه الكائنات الحيوانية، أو الطيور ذات الأشكال الغربية.
مع التطورات التقنية المتطورة – في سرعات استثنائية – من أنظمة الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية، ثمة حالة من القلق والتوتر واللايقين.. من غموض مسارات ومآلات التطور العلمي المستقبلي؛ سواء من خلال الوعي بحساسية وقفزات التغييرات الاستثنائية المتلاحقة، وأثرها على الوجود الإنساني ذاته، وعلى مفهوم الوحدة والعزلة، بل والتفاعلات الاجتماعية والأسرة والصداقة والحب، على نحو يدفع نحو "ثورة الحواس".. علامة ودلالة على الحاجة والدوافع للشعور الفردي والجماعي بالوجود.. من خلال الحواس في المأكل، والمشرب، والزي وأنظمة الموضة، والألواح الرقمية، والهواتف النقالة وتطوراتها التقنية السريعة، والسفر للسياحة، أو تعاطي الأفيون الرقمي.. من خلال الهوس بالحضور على وسائل التواصل الاجتماعي، للجموع الرقمية الغفيرة.. في أنماط حياتها الفعلية واليومية، على نحو يعبر عن حالة الانكشاف، بل ونهاية مفهوم الخصوصية.
أدت حرية الاستهلاك واسع النطاق، وهيمنة الشركات العملاقة على إنتاج السلع والخدمات، إلى توجيه الدوافع الاستهلاكية للأفراد والجماعات.. في الدول الأكثر تقدماً والمتوسطة، بل ولدى شرائح داخل الدول الأكثر فقراً، وإلى هيمنة نزعات تسليع وتشيؤ الحواس والتطلعات الفردية.
مع الرأسمالية الرقمية، وشركاتها العملاقة، باتت سياساتها الإنتاجية مؤثرة على النظم الليبرالية التمثيلية، والطبقات السياسية الحاكمة من خلال الأنظمة، وبرامج الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمةBig Data، وتداخلها في أنظمة وسياسات وآليات الهيمنة على المواطنين.. من خلال أنظمة الرقابة والمتابعة فى أماكن العمل، وفي الأسواق، والمنازل، والشوارع، وأماكن التنزه والطائرات، والقطارات، والسفن، والمركبات العامة، غالب تفاصيل الحياة باتت تحت الرقابات الرقمية، وعلى رأسها الحياة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها. من ثم باتت بعض الحريات العامة والفردية في حالة انكشاف، وتحت الرقابة، حتى حرية الاستهلاك بوصفها حرية الحريات جميعها في عصرنا – مع الرأسمالية النيوليبرالية والثورة الصناعية الثالثة، والرأسمالية الرقمية في الثورة الرقمية الرابعة – في حالة حصار ورقابات متعددة المستويات، والتفصيلات، وبات الفرد أسيراً وخاضعاً لها.
من هنا، تغوَّلت وسيطرت الشركات الرأسمالية الرقمية العملاقة.. على الحياة الإنسانية والسياسية، وعلى الأجهزة الدولتية، ومن ثم بات الصراع على ابتكار أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتات.. أحد أبرز سمات التحول في عصرنا نحو ما بعد الإنسانية، حيث سيدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي طرفاً فاعلاً في المستقبل، وخاصة في الأجل المتوسط – في مجتمع الإناسة الروبوتية، ثم ما بعد الإنسان – ويؤثر في التحول من المجتمع الإنساني، ونظمه وسياساته، إلى عالم مختلف ليس عالماً إنسانياً محضاً، ومن السيطرة الإنسانية، إلى أدوار متعاظمة لأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات، ومن ثم سيؤدي ذلك إلى إنهاء مفاهيم سياسية وفلسفية وسوسيولوجية حداثية عديدة، ومنها الدولة، والقومية، والأنظمة السياسية الليبرالية التمثيلية.
سيؤثر الذكاء الاصطناعي التوليدي على العقل السياسي للطبقة السياسية، الذي سيعتمد على اللجوء إلى الذكاء التوليدي، في عديد الأمور، من وضع السياسات والبرامج، والقرارات، أو في الاختيارات بين البدائل المختلفة، أو إعداد الردود على الأحزاب السياسية المعارضة في البرلمان، أو وسائل الإعلام المختلفة. في مجال عمل السلطة التشريعية من المرجَّح استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي.. في تحليل مشروعات القوانين من الحكومات، وفي أعدادها من خلال البيانات الحكومية، وفى كل مشروع قانون، ووضع نصوص مقترحة، أو تعديلات، أو ضبط النصوص التشريعية، ورفع التعارضات والتناقضات بين نصوص القوانين المختلفة، أو اقتراح إلغاء بعضها، أو وضع صيغ توافقية فيما بين بعضها بعضاً.
سيعتمد أعضاء البرلمانات والأحزاب الحاكمة والمعارضة.. على الذكاء الاصطناعي في إعداد التشريعات، أو مناقشتها، أو نقد بعض نصوصها، أو رفضها، والأهم في مجال الرقابة البرلمانية وفي إعداد الأسئلة والاستجوابات للسلطة التنفيذية. وفي نطاق عمل السلطة القضائية، دخلت الرقمنة في مجال المحاكمات عن بُعد – كما حدث في ظل وباء "كوفيد-19" المتحور – وحالة الإغلاق الكلي والجزئي، ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي مستقبلاً في التحقيقات الجنائية من الأجهزة الشرطية ومن الأجهزة القضائية والنيابة العامة والقضاة، وذلك على نحو أوَّلي.. مع الدور الإنساني، ثم سرعان ما سوف يتم التركيز على ما تقوم به برامج الذكاء التوليدي، خاصة مع تطوراتها المتسارعة، وردود أفعالها.. يمكن أيضاً استعانة القضاة بالذكاء التوليدي في وضع الأحكام، وحيثياتها، واستدعاء المبادئ القضائية. من ناحية أخرى.. تحليل شخصيات المتهمين نفسيا، وسوسيولوجيا، ودوافعهم للسلوك الإجرامي.. إلخ.
الاحتمالات السابقة كان من الممكن اعتبارها بعضاً من الأخيلة الإنسانية الجامحة، إلا أن السرعة الفائقة وأثرها على الابتكارات التقنية، وفي العلوم الطبيعية، على نحو بالغ السرعة، جعلت ما كان متخيلاً بات جزءاً من الواقع الفعلي المتغير.. في قفزات هائلة، ومن ثم سيجعل من العقل السياسي الحداثي، وما بعد الحرب الباردة، في حالة تناقضات وعجز ونكوص.. على نحو ما يفعل ترامب، الذي يحاول استعادة نمط من الشعبوية القومية، وبعض من الاعتداءات على القضاء، والمساس بالحريات الأكاديمية في جامعات النخبة، وتقليص بعض أجهزة الحكومة الفيدرالية، والموظفين انطلاقاً من سياسة تحويل الحكومة الفيدرالية إلى شركة في إدارتها.
لا شك أن محاولات ترامب وماسك.. العمل على الحد أو تقليص دور الكونجرس والقضاء؛ في اتخاذ القرارات.. كلها سياسة، لتغيير بعض وظائف سلطات الدولة أياً كانت حدودها، ولو على نحو جزئي!
إنها سياسات وقرارات تنفيذية تحاول – من خلال الشعبوية القومية – توظيف بدايات ثورة الذكاء التوليدي.. في سياسة مناهضة لها، وأقرب إلى التراجع إلى مفاهيم تتغير، وتؤدي إلى شروخ في مفهوم الدولة، وسلطاتها الثلاث والفصل بينها، والليبرالية التمثيلية، والحريات وحقوق الإنسان، وما كان يطلق عليه القوة الناعمة الأمريكية، وأيضاً سياسة تفاقم من حالة الاضطراب واللايقين في التنظيم الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنظماته المختلفة، التي باتت عاجزة عن مواجهة تغيرات عالمنا فائقة السرعة.
· عن صحيفة الاهرام