ميسان / مهدي الساعدي
تتوسط محلة «السرية» قلب مدينة العمارة، وتتميز بموقعها القريب من السوق الكبير من جهة، ومن النهر المتفرع عن نهر دجلة من جهة أخرى، ما أكسبها خصوصية كبيرة جعلت أبناء المدينة يطلقون عليها اسم «السوق». وقد عُرفت بتعددية سكانها من المسلمين والمندائيين، ووصفت بأنها من أولى المحال السكنية التي دخلها الطراز المعماري العصري، في حين لا تزال الشناشيل القديمة والأزقة الضيقة التي تربط شوارعها، شاهداً على أصالتها وانتمائها.
يشير المؤرخ الميساني عبد الجبار الجويبراوي، في حديثه لصحيفة «المدى»، إلى أنّ تأسيس محلة السرية يعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، إبان العهد العثماني، حيث كانت من المحال القريبة من سراي الحكومة. ويضيف: «على الرغم من وجود مصادر تاريخية تشير إلى وصول رحالة أوروبيين إلى المدينة في القرن السادس عشر الميلادي، مثل الرحالة سباستياني الذي ذكر المدينة، إلا أنه لم يحدد أسماء أحيائها أو مناطقها السكنية، مكتفياً بالإشارة إلى الثكنات العسكرية العثمانية».
وتعود تسمية المحلة، وفقاً للكاتب والأديب الميساني عبد الحسين بريسم، إلى «سري باشا» متصرف لواء العمارة في العهد العثماني، الذي حكم المدينة بين عامي 1871 و1874. ويضيف في حديثه لـ«المدى»: «تُعد محلة السرية من أقدم الأحياء السكنية في العمارة، ويعتبرها الأهالي جزءاً من محلة السراي بسبب تداخل المنطقتين على الجزء الشمالي من كورنيش المدينة، الواقع على نهر متفرع من دجلة قبل انقسامه إلى الكحلاء والمشرح».
وعاشت في المحلة أطياف متعددة من أبناء ميسان من مختلف الأديان والمذاهب والأعراق، متعايشين بسلام لعقود طويلة، ويؤكد مالك نعيم، أحد سكان المحلة، في حديثه لـ«المدى»: «سكن الصابئة المحلة إلى جانب المسلمين وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى لسنوات طويلة، ولم تُسجل حالات خلاف بسبب الانتماء الديني أو المذهبي، بل جمعت المحلة عوائل من مشارب متعددة».
وأضاف: «لا يزال أبناء المحلة يتذكرون عائلاتها العريقة التي كان لها حضور على مستوى المحافظة والعراق في مختلف المجالات».
ورغم عراقة المحلة، لم يحمها ذلك من زحف الحداثة الذي طال منازلها التراثية، حيث تحوّلت كثير من بيوتها إلى مخازن للمحال التجارية القريبة. ويوضح مالك نعيم: «قرب المحلة من الشوارع التجارية جعلها محط أنظار التجار، الذين سعوا لشراء منازلها وتحويلها إلى مخازن لسلعهم، ما دفع العديد من الأهالي إلى بيع منازلهم أو تأجيرها كمخازن لتحصيل مبالغ مالية تساعدهم على الانتقال إلى مناطق أخرى داخل أو خارج المحافظة، وهو ما أدى إلى تخريب ملامح المحلة وتهديم بيوتها شيئًا فشيئًا، رغم احتفاظ عدد منها بطابعها المعماري والفلكلوري المميز، مثل الشناشيل وغيرها».
وقد أنجبت «السرية» العديد من الشخصيات العراقية البارزة في ميادين الأدب والفن والعلم، من بينهم الشاعرة المعروفة لميعة عباس عمارة. كما ارتبط بها الفنان والمخرج المسرحي الراحل الدكتور فاضل خليل، الذي تحدث عنها في لقاء مصور قائلًا: «السرية ليست محلة سكنية عادية، بل هي حالة استثنائية لأنها أنجبت المبدعين، مثل عبد الجبار عبد الله، أول رئيس لجامعة بغداد" .