TOP

جريدة المدى > سياسية > في ظل الأوبئة والأزمات الاقتصادية: لماذا تبقى المطاعم الخيار الترفيهي الأبرز؟

في ظل الأوبئة والأزمات الاقتصادية: لماذا تبقى المطاعم الخيار الترفيهي الأبرز؟

نشر في: 8 مايو, 2025: 12:17 ص

بغداد / المدى
«نحن لا نخسر فقط الأشجار والمسطحات الخضراء، بل نخسر توازننا البيئي، ونقلّص خياراتنا الترفيهية»؛ بهذه الكلمات يعبّر الخبير البيئي عمر الشيخلي عن قلقه إزاء ما تشهده بغداد من توسّع عمراني عشوائي يهدد النظم الطبيعية في المدينة. ويضيف في حديثه لـ«المدى»: «إزالة المساحات المزروعة، وضفاف الأنهار، وغابات النخيل من أجل بناء منشآت استثمارية خرسانية أدّى إلى تدهور بيئي واضح، وتراجع في المساحات المفتوحة المناسبة للاستجمام والترفيه، مما أسهم في تكدّس السكان وتراجع التنوع البيولوجي في المدينة».
يردف: «هذا التدهور في البنى التحتية البيئية، بالتوازي مع غياب رؤية حكومية شاملة لتطوير أماكن الترفيه العامة، جعل من المطاعم ما يشبه “الملاذ الأخير” للعراقيين الباحثين عن متنفس. ففي بلدٍ تتزاحم فيه الأزمات على المواطن من كل اتجاه، تظل المطاعم مزدحمة، تعجّ بطاولات العائلات والأصدقاء، وتتناثر فيها الضحكات العابرة كأنها محاولات مستميتة للنجاة من الواقع».
في أحد مطاعم بغداد الشعبية، يروي صاحب المطعم مهدي المهنا جانبًا من هذا التناقض الظاهري. يقول لـ«المدى»: «الناس ما جايين لأن عدهم فلوس زايدة، لكن لأن المطعم صار عندهم مثل الاستراحة النفسية. كثير من الزبائن يجون نهاية الأسبوع، ويقولون لي صراحة إنهم يتنازلون عن أشياء ثانية مقابل هذا الجو».
ويشير مهدي إلى تغيّر واضح في ذائقة الزبائن: ليس المهم الطعام الفاخر بقدر ما هو الإحساس بالراحة. «مو شرط الأكل يكون فايف ستار، بس لازم يحسون بالترحيب، بالنظافة، وبالأمان.. وهذا اللي نحرص عليه».
المشهد ليس حكرًا على العاصمة. من البصرة إلى أربيل، تتكرر الظاهرة ذاتها: مطاعم مزدحمة رغم الشكاوى المستمرة من غلاء الأسعار وتراجع الدخل. ويرى الباحثون والمهتمون بالشأن العام في هذا الإقبال المكثّف على المطاعم أكثر من مجرد نزوة استهلاكية.
الناشط المدني حمزة الشمري، الذي يرصد تحولات السلوك المجتمعي، يرى أن الظاهرة انعكاس لغياب الخيارات. يقول لـ«المدى»: «ما نشهده لا يرتبط برفاهية أو فائض مالي، بل بغياب البدائل. حين تكون الحدائق مهملة، والمنتزهات محدودة، والفعاليات الثقافية غير منتظمة، فإن المطاعم تصبح الخيار الأسهل والمتاح أمام المواطن الذي يبحث عن فسحة صغيرة للراحة».
ويصفها بـ«الحل الوقتي للضيق النفسي»، وهي وجهة نظر يشاركها الخبير الاقتصادي أحمد عايد، الذي يؤكد أن الظاهرة لا تشير إلى تحسن اقتصادي، بل إلى تغيّر في سُلّم الأولويات. يقول لـ«المدى»: «الناس لا تذهب إلى المطاعم لأنها تملك فائضًا في الدخل، بل لأنها فقدت البدائل. المواطن يبحث عن لحظة بسيطة تجعله يشعر بأنه ما يزال قادرًا على الاستمتاع، حتى وإن جاءت تلك اللحظة على حساب حاجات أخرى أكثر أهمية».
ويتابع: «الإنفاق الاستهلاكي اليوم لم يعد يُبنى على المنطق الاقتصادي البحت، بل على الحاجة النفسية العاجلة. هناك شعور عام بالإرهاق والضغط، ما يجعل الكثيرين يفضّلون الإنفاق على جلسة مريحة في مطعم على الادخار أو شراء شيء دائم. اللحظة الآنية باتت أغلى من المستقبل الغامض».
ويكمل: «هذا الشعور، الذي بات يُشترى بفاتورة مطعم، يُغذّى أيضًا بما توفره هذه الأماكن من بيئة حيوية وشبه منظمة، في مقابل فوضى الخدمات الأخرى. القطاع الخاص لعب دوره هنا، إذ شهد العراق في العقد الأخير طفرة واضحة في أعداد المطاعم والمقاهي، وتنوعًا واسعًا في عروضها، سواء من حيث الأسعار أو الأجواء».
وتعزّزت هذه الثقافة الجديدة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحوّلت صور الأطباق، واللقاءات العائلية، وزوايا الديكور إلى محتوى يُوثّق ويُشارك، خاصة بين فئة الشباب، الذين يجدون في المطاعم وسيلة للتعبير عن الذات، وعن «الحياة الممكنة» وسط واقع معقد.
في هذا السياق، تروي غفران طعمة، وهي أستاذة جامعية، عن محاولاتها المتكررة للهروب من ضغط العمل. تقول لـ«المدى»: «كلما حاولت أن أبحث عن مكان هادئ أقضي فيه بعض الوقت، أكتشف أن لا شيء متاح سوى المطاعم. الحدائق قليلة، بعضها مغلق، فلا يبقى أمامي سوى مقهى أو مطعم أجلس فيه بهدوء»، وتضيف بابتسامة: «صرت أعرف المطاعم من حيث مستوى الهدوء أكثر من نوعية الطعام».
وتكمل: «اللافت أن هذه الثقافة لم تبقَ حكرًا على الطبقة الوسطى، بل باتت تشمل الفئات ذات الدخل المحدود، التي تجد في زيارة مطعم فرصة نادرة لكسر روتين الحياة، دون الحاجة إلى سفر أو إنفاق مفرط. وهنا تكمن المفارقة: أن تتحوّل المطاعم، في بلد يعاني من نسب بطالة مرتفعة، إلى ملاذٍ جماعي».
وتختتم حديثها لـ«المدى»: «تبقى المطاعم أكثر من مجرد مكان لتناول الطعام. إنها مساحات اجتماعية ونفسية تعبّر عن فراغ داخلي لاستعادة ما يُشبه الحياة. ومع غياب مشاريع الترفيه الحكومية الجادة، تتحمل المطاعم، بحلولها البسيطة وأجوائها الدافئة، عبء توفير مساحة مؤقتة للهروب، والتقاط الأنفاس لي ولعائلتي».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

الانتخابات قد تتأجل إلى 2026: أحزاب السلطة غير مقتنعة بـ
سياسية

الانتخابات قد تتأجل إلى 2026: أحزاب السلطة غير مقتنعة بـ"عدالة التنافس"!

بغداد / تميم الحسن ترجّح أطراف شيعية تأجيل الانتخابات البرلمانية المقبلة إلى ربيع أو صيف 2026، بسبب "مفاجآت" قد تحدث قريبًا. ويُفترض خلال هذه الفترة أن يتم "تقليم أظافر" بعض الحكوميين الذين يسعون للترشح،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram