TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في الطابق الثاني من مكتبة كوندورسيه.. لقاء مع العباقرة العراقيين المنسيين

في الطابق الثاني من مكتبة كوندورسيه.. لقاء مع العباقرة العراقيين المنسيين

نشر في: 11 مايو, 2025: 12:01 ص

أحمد حسن

كل أسبوع، أصعد إلى الطابق الثاني من مكتبة حرم جامعة كوندورسيه في باريس ـ أوبرفيلييه. لحظة تفتح أبواب المصعد، لا أجد نفسي أمام رفوف كتب فقط، بل أمام ثلاثة من أعظم العقول العراقية التي أنجبتها الدولة العباسية،(الكندي، الجاحظ، وجابر بن حيان) ثلاثة رجال، لا يفصلني عنهم سوى زمن من الغفلة، ورفوف من الورق، لكنّ أرواحهم هنا، وكأنهم كانوا ينتظرونني.
الجاحظ، ابن البصرة، يحدّق بي بعينيه الجاحظتين، شاحب الوجه، ساخر الروح، ساكن النصوص، يضحك من أعماق كتبه، يغازل المفردة كما يغازل النساء في رسائله، ويتهكّم على البخلاء والفلاسفة والولاة ببلاغة لا تُجارى. أراه وهو ينسج فقرات "البيان والتبيين"، ويفضح في أدبه رسائل التهكم المتبادلة بين معاوية بن أبي سفيان وقيس بن سعد، كأنه شاهدٌ ساخر على عصورٍ لم تغادر حاضرنا.
ثمّ يطل الكندي، وجهه الوسيم يشعّ حكمة ورهافة، هو الذي مزج الفلسفة بالعطر، حتى أكاد أشمّ في زوايا المكتبة رائحة اختراعه، كأن عطره الفرنسي الحديث قد استُخرج من قلب رسائله القديمة. هناك، من بين صفحات كتبه، يحدّق فيّ بصمتٍ المعلّم، يعلّمني أن الفلسفة ليست علماً مجرداً، بل رسالة أخلاق، وتركيب عطرٍ للروح والعقل.
أما جابر بن حيان، ابن الكوفة، ففي "كتاب السبعين" يحاور أرسطو وسقراط كما لو أنهم جيرانه، يتحدث عن الفيلسوف الصادق، عن الكيمياء التي اخترعها لا لتكون علم التحليل، بل فنّ التحوّل. يجلس على مقعد الزمن، قبل أن تُبنى هذه المكتبة، ويكتب من هناك إلى المستقبل. يُعلّمني كيف تكون المعادلة حكمة، والتجربة عقيدة.
أجلس بجانب كتبهم، كمن يجلس في حضرة أولياء المعرفة. كتُبهم لا تُقرأ فقط، بل تُعاش. من البيان إلى التبيين، ومن السبعين إلى الرسائل، من البصرة إلى الكوفة إلى بغداد، من العباسيين إلى باريس… ها هم يعودون. أراهم، أسمعهم، كأنهم يسألونني، ماذا حلّ ببلادنا؟ ما الذي بقي من دار الحكمة؟.
كل مرة أجلس بجانب كتبهم، أشعر أنني أتنقّل في الزمن الذهبي، ذلك العصر الذي صاغته اللغة البصرية والكوفية في أسمى معانيها، واحتضنته بغداد بعمقها وسعتها. هنا، في باريس، التقيت بعراقيين لم أكن أعرفهم. عشت في وطنٍ لا يدرّس أبناءه أعظم من أنجبتهم أرضه. لم أعرف الكندي ولا الجاحظ ولا جابر بن حيان كما يجب، إلا عندما وصلت إلى مدينة لا يتحدّث أهلها العربية.
أشعر بالغباء لأنني انتظرت تسعة وعشرين عاماً كي أكتشفهم. لكنّي الآن أعرف. أعرف أن الكندي ليس مجرد فيلسوف، بل مؤسس الفلسفة العربية والطب التجريبي. وأن جابر ليس فقط كيميائياً، بل مفكّرًا يرى المادة مرآةً للروح. وأن الجاحظ ليس فقط أديبًا، بل واضع أسس النقد والسخرية والوعي الاجتماعي. هؤلاء هم العراقيون الحقيقيون… أولئك الذين لا يعرفهم العراقيون اليوم.
لم يكن لقائي بهم في باريس مجرد مصادفة عابرة، بل لحظة وعي، اكتشفت فيها أن المنفى قد يكون بوابة العودة إلى الذات. أن الغربة، رغم ما فيها من قسوة، تكشف أحيانًا ما لم تكشفه المدن التي نشأنا فيها، والتي طالما حجبت عنا وجوهنا الحقيقية تحت ركام السياسة والدمار والنسيان.
في هذا الطابق الهادئ، وسط صمت الكتب وهمس المعرفة، أشعر أنني في ضيافة عباقرة صنعوا تاريخًا لم نعد ندرّسه، وتركوا أثرًا لا نعود إليه إلا إذا عبرنا الحدود. أقرأهم اليوم بلغاتٍ أخرى: الفرنسية، الألمانية، الإنجليزية… وكأن العالم عرفهم قبلنا، واحتفى بهم أكثر منا.
كيف صارت كتب الجاحظ تُدرّس في جامعات أوروبا، فيما أبناء البصرة يجهلون حتى اسمه؟ كيف صار الكندي مرجعًا للفلاسفة المعاصرين، فيما لا مكان له في مناهج بلادٍ أنجبته؟ كيف صارت الكيمياء التي أسسها جابر تُنسب لغيره، فقط لأننا فقدنا القدرة على التوثيق والاعتراف؟ هذا ليس فقدان ذاكرة، بل خيانة ذاكرة.
كل يوم أجلس بجوارهم، أقرأ صفحاتهم، وأشعر وكأنهم يتنفسون من بين السطور، يمدّون إليّ أيديهم لا ليعلّموني فقط، بل ليعاتبوني. يسألونني: من أنتم اليوم؟ وأين نحن منكم؟ هل لا زلتم تقرأون؟ هل بقيت دار للحكمة؟ هل بقيت بغداد؟.
أحيانًا، أضع يدي على صفحة من صفحات كتبهم وأغلق عيني. لا أقرأ. فقط أستمع. في تلك اللحظة، أسمع ضحكة الجاحظ، وأفكار الكندي تتردد كعطر في الهواء، وأصوات تجارب جابر تتقطر من أنابيب الزمن. أسمع بغداد وهي تناديني من بين السطور، وتقول: نحن هنا… لكننا ننتظر من يعيدنا إلى الحياة.
هذه المكتبة، في باريس، صارت لي أكثر من ملجأ. صارت بوابة أطل منها على هويةٍ منسية. صارت محرابًا لثلاثة عراقيين علّقوا في الزمن، ينتظرون من يعيد قراءة تاريخهم، لا كأسماء في امتحانات، بل كأرواح حية، كأبنية من فكر، وخرائط من نور.
لقد عرفتهم أخيرًا، بعد تسعة وعشرين عامًا، لكنني اليوم أحملهم معي. كلما فتحت كتابًا، شعرت أنني أعيد بناء دار الحكمة، لبنة لبنة. كلما قرأت سطرًا، شعرت أن بغداد لم تمت. وأن الكوفة والبصرة لم تخرسا. وأن العراق، مهما نسي، ستظل كتبه شاهدة على أنه أنجب من يُعلّم العالم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram